خيرالدين الزركلي.. خير علم ترجم للأعلام في القرن الـ 20

أجّلتُ كثيراً الكتابة عن المؤرخ والأديب والشاعر والسياسي والدبلوماسي والصحافي وجامع النفائس والمخطوطات السوري الأصل، البيروتي المولد، السعودي الجنسية، العروبي الهوى «خير الدين الزركلي»، لأن التوثيق لشخصية علامة مثله، ليس بالأمر السهل، فقد عاصر معظم الأحداث والمتغيرات العاصفة في بلاد العرب والعالم خلال القرن العشرين، وناضل من أجل استقلال بلده الأم (سوريا)، وخدم أكثر من بلد وملك وحكومة، وجال في دول العالم موفداً ووزيراً ودبلوماسياً ومستشاراً وباحثاً، وشارك في أهم الاجتماعات العربية والدولية التي انبثقت منها منظمات إقليمية وعالمية.

عرفته وأنا في المرحلة الابتدائية، حينما قرأت له كتابه المعجمي الأشهر «الأعلام»، الذي كان يتصدر أرفف مكتبة مدرستي، وقت أن كنت أميناً عاماً لها في صغري، وأتذكر أني كثيراً ما كنت أنسخ مقتطفات من هذا الكتاب الفخم، لكي أنشره في صحف الحائط المدرسية.

والكتاب عبارة عن قاموس يحتوي على تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، كتبت بلغة بليغة، وأسلوب محايد، وأمضى الزركلي في تأليفه قرابة الستين عاماً من عمره، ابتداء من عام 1912، ووصفه الإعلامي الصديق السفير تركي الدخيل، بأنه أضخم موسوعة تراجم في العصر الحديث، بينما قال عنه الأديب السعودي عبد العزيز الرفاعي: «لقد قلت ذات مرة إنه لو سئلت عن أعظم كتاب عربي صدر في القرن الرابع عشر الهجري، لقلت دون تردد إنه كتاب «الأعلام للزركلي»، ولعل ما يميز هذا العمل الموسوعي عن غيره، أن مؤلفه تفرد بالنظر إلى المستشرقين بوصفهم أعلاماً خدموا الثقافة العربية والإسلامية، ورفدوها بجهودهم وعلومهم ورحلاتهم ومؤلفاتهم وتدويناتهم.

يعد الزركلي أحد الشخصيات العربية، التي اعتمد عليها الملك الراحل عبد العزيز آل سعود، ونجلاه (سعود وفيصل)، في الكثير من المهمات السياسية والدبلوماسية والإعلامية الرسمية، فقد كان ضمن ثلة من أفضل العقول والمواهب التي اختارها الملك في تلك الفترة من دول عربية شتى، لمعاونته في تسيير أمور بلاده الداخلية والخارجية، بسبب ندرة الكفاءات والخبرات آنذاك، ثم تمّ تجنيسها لاحقاً، حينما أثبتت ولاءها وإخلاصها وتفانيها في خدمة المملكة العربية السعودية، وأهدافها النبيلة.

ولد «خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي» في بيروت، بتاريخ 25 يونيو 1893، ابناً لأسرة دمشقية من أصول كردية، لكنه نشأ وترعرع في دمشق، في ظل والده التاجر المعروف، وتعلم في مدارس دمشق الأهلية، ونهل على يد معلميها الكثير من العلوم، لا سيما علوم الأدب والنحو والبلاغة والشعر، التي انجذب لها، إلى درجة أنه نظم الشعر في صباه.

أتم دراسته الثانوية (القسم العلمي) في المدرسة الهاشمية بدمشق، قبيل الحرب العالمية الأولى، وبعد تخرجه في الهاشمية بامتياز وتفوق، عمل بها مدرساً، وهو لم يبلغ العشرين عاماً، وإبان ذلك، قاده شغفه بالصحافة وذكاؤه وألمعيته، إلى إصدار مجلة أسبوعية، أطلق عليها «الأصمعي»، لكن السلطات العثمانية الحاكمة حينذاك صادرتها.

ويبدو أنه استاء من ذلك، فقرر الانتقال من دمشق إلى بيروت، التي التحق فيها بالكلية العلمانية لدراسة الأدب الفرنسي.

وحينما تخرج في هذه الكلية، عمل بها أستاذاً للتاريخ والأدب العربي لبعض الوقت، قبل أن يقرر العودة إلى دمشق، أوائل اندلاع الحرب العالمية الأولى.

في دمشق، وبعد انتهاء الحرب في عام 1918، عاوده الحنين للعمل الصحافي، فأصدر مع بعض من أصدقائه صحيفة يومية، سموها «لسان العرب»، لكنها توقفت لأسباب مالية، فشارك في تأسيس صحيفة يومية أخرى باسم «المفيد».

وإبان هذه الفترة من حياته، هيأ لطبع مجموعته الشعرية الأولى، التي أطلق عليها «عبث الشباب»، لكن النيران التهمتها (فاسترحتُ منها وأرحت، بحسب قوله، في ترجمة كتبها عن نفسه).

في تلك الترجمة نجده يقول إنه على إثر انتصار الفرنسيين في معركة ميسلون، وفي صباح اليوم الذي كانوا يدخلون فيه إلى دمشق سنة 1920، كان هو يغادرها إلى فلسطين ومصر والحجاز، فحكم الفرنسيون عليه بالإعدام غيابياً، وقاموا بحجز أملاكه، لدوره التحريضي ضدهم.

في عام 1921، حلّ الزركلي في الحجاز، فمنحته الحكومة الجنسية العربية الحجازية، بل ظن به شريف مكة، الحسين بن علي، ظناً حسناً، فانتدبه لمساعدة ابنه الأمير عبد الله بن الحسين، وهو في طريقه إلى شرق الأردن، لتأسيس دولته. ما فعله الزركلي آنذاك، كان الذهاب إلى مصر، فالقدس، لاصطحاب جماعة منهما إلى عمان، كي تمهد معه السبيل لدخول الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمان، من أجل تأسيس حكومته الأولى.

في هذه الحكومة الأردنية الوليدة، تم إسناد منصب مفتش عام المعارف للزركلي، ومنه ترقى، فتولى في الفترة ما بين عامي 1921 و1923، منصب رئيس ديوان رئاسة الحكومة.

يقول الزركلي إنه في تلك الفترة، قررت حكومة الجمهورية الفرنسية إلغاء حكم الإعدام الصادر بحقه، الأمر الذي سمح له العودة إلى دمشق، لاصطحاب أسرته منها إلى عمان.

في عام 1923، ترك عمله في عمان، وسافر إلى مصر حيث، أسس في القاهرة أواخر سنة 1923 «المطبعة العربية»، التي تولت طباعة بعض مؤلفاته ومؤلفات غيره، قبل أن تسوء صحته من العمل بالمطبعة، ويقرر بيعها في عام 1927، وينصرف إلى الراحة والاستجمام.

وإبان انشغاله بمطبعته المصرية، ثار السوريون سنة 1925 على الاحتلال الفرنسي، فشارك في ثورتهم بقصائد وطنية حماسية، كان يرسلها سراً للنشر في الصحف السورية والعربية، ما جعلها أنشودة على كل لسان في شوارع المدن السورية الثائرة، كما استغل العلاقات الجيدة التي كوّنها في مصر، مع كتابها وشعرائها ومفكريها، في التحشيد الجماهيري لنصرة القضية السورية، ومساعدة السوريين الثائرين ضد الفرنسيين.

وهذا أزعج الفرنسيين، بطبيعة الحال، وتسبب في إصدارهم حكم إعدام غيابي جديد بحقه، معطوفاً على مطالبة الحكومة المصرية بإسكاته أو طرده من القاهرة.

والجدير بالذكر أن أحد الذين استنجد بهم الزركلي لدعم قضية وطنه الأم، هو أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي ألقى في عام 1926، من خلال حفل أقيم بالقاهرة، قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها:

سلام من صبا بردى أرقّ

ودمع لا يكفكف يا دمشق

في عام 1930، زار الزركلي القدس، والتقى فيها بصديقين، فقرروا معاً إصدار جريدة «الحياة» اليومية، لكن الحكومة الإنجليزية عطلتها، بسبب نهجها العروبي القومي المقاوم للمستعمرين، على إثر ذلك، اتفق مع آخرين على تأسيس جريدة يومية أخرى في يافا، وأعدوا لها مطبعة، وأصدروا العدد الأول منها، لكنه تركها لصحبه الذين واصلوا إصدارها.

أما السبب في تركه العمل الصحافي فجأة، فيعود إلى حدث مفصلي، غيّر مجرى حياته كلياً.

ففي تلك الفترة عرض عليه العمل لدى الحكومة السعودية، للاستفادة من علمه وخبراته، فوافق شاكراً.

وهكذا تمّ تعيينه في عام 1934 مستشاراً للوكالة (ثم المفوضية) العربية السعودية بمصر.

وبصفته تلك، وباسم المملكة العربية السعودية، شارك في الكثير من الاجتماعات والمداولات التي سبقت تأسيس جامعة الدول العربية، بل وقّع باسم السعودية على ميثاقها سنة 1945.

وفي العام التالي، صدر مرسوم ملكي سعودي، قضى بأن يتناوب الزركلي، مع «يوسف ياسين» نائب وزير الخارجية حينذاك، العمل في وزارة الخارجية، وفي الجامعة العربية.

واستمر كذلك إلى أن صدر مرسوم ملكي آخر في سنة 1951، قضى بتعيينه وزيراً مفوضاً ومندوباً دائماً للسعودية لدى جامعة الدول العربية في مقرها بالقاهرة، حيث شعر وقتها بنوع من الاستقرار، وأتيح له من الوقت ما يكفي لإنهاء كتابه الأهم «الأعلام»، ودفعه إلى المطابع.

أتاح له العمل مع الحكومة السعودية، فرصة السفر إلى مناطق مختلفة من أجل تمثيلها. حيث سافر إلى اإنجلترا في عام 1946، ومنها إلى فرنسا، لتمثيل السعودية في اجتماعات المؤتمر الطبي الأول بباريس.

وفي عام 1947، جال لمدة سبعة أشهر في الولايات المتحدة، في مهمة رسمية غير سياسية، حضر خلالها بعض اجتماعات هيئة الأمم المتحدة.

وفي عام 1954، أرسل إلى أثينا وزيراً مفوضاً ومندوباً فوق العادة للمملكة العربية السعودية، وفي عام 1955، سافر إلى تونس ممثلاً للسعودية في مؤتمر أقامه الحزب الدستوري التونسي، فمرّ في طريق عودته بإيطاليا، حيث مكث بها شهرين لزيارة مكتباتها.

وفي عام 1957م، تمّ تعيينه سفيراً ومندوباً من الدرجة الممتازة في المغرب، التي أمضى بها نحو ست سنوات، آلت إليه خلالها عمادة السلك الدبلوماسي لمدة ثلاث سنوات.

وفي عام 1963، داهمه المرض وهو في المغرب، فاستدعي إلى الرياض، حيث طلب وقتها أن يُحال على التقاعد.

وانتهى الموضوع بأن منح إجازة مفتوحة للراحة والعلاج والاستجمام، وأيضاً لإنجاز كتابه «شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز».

اختار الزركلي الإقامة في بيروت، التي يعرفها جيداً. وكافأه الملك فيصل على جهوده وخدماته للدولة السعودية، بأن خصص له في بيروت شقة وسيارة وسائقاً وخادماً (لأن أسرته كانت بعيدة عنه في القاهرة)، فعكف على إنجاز كتابه المذكور، إلى أن هيأه للطباعة في عام 1970.

وكان إبان ذلك يزور بين الحين والآخر الرياض ودمشق والقاهرة وروما، ويتردد على سويسرا للعلاج من أمراض القلب. واستمر على هذه الحال، حتى وافته المنية وهو في القاهرة بين أسرته.

ففي يوم الخميس الموافق 25 نوفمبر سنة 1976، طوى الموت العلم الذي خلد الأعلام... مات الزركلي عن 83 عاماً، فحزن عليه ونعاه الكثيرون من أصدقائه وزملائه وتلامذته، وتمت الصلاة عليه في اليوم التالي بمسجد عمر مكرم، ودفن بالقاهرة. وفي يناير 1977، أقام له النادي العربي بدمشق، حفل تأبين كبيراً.

وتخليداً لذكراه، أطلقت وزارة التربية السورية اسمه على إحدى مدارس دمشق، وسُمي شارع باسمه في العاصمة السعودية، الرياض.

ونختتم بالإشارة إلى أن الزركلي، الذي ألّف 10 كتب مختلفة في التاريخ والسياسة والشعر والقصة والتراجم، حصل على عضوية المجمع العلمي العربي بدمشق في عام 1930، وعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة في عام 1946، وعضوية المجمع العلمي العراقي ببغداد في عام 1960، وكتب العديد من القصائد في الحنين إلى الوطن، مستخدماً النمط السهل الواضح، وأحياناً الأسلوب القصصي، وفق طريقة الشاعر المصري حافظ إبراهيم، لكنه اعترف أنه فضّل التفرغ للبحث والتأليف على نظم القصائد، فكانت مساهماته الشعرية، أقل من مساهماته النثرية.