عندما يحلم «شات جي بي تي»

بعيداً عن ابن سيرين وكتابه القيّم «تعبير المنام»، ومقالاته الأربعة عشر من تعريف المنام وآداب النوم وأقسام الرؤى، والاختلاف بين الرؤية والحلم، نتطرق اليوم إلى حلم مختلف تماماً، فمحدثي يفترض أنه شخصية افتراضية من صناعة الذكاء الإصطناعي.

بالأمس، كنت أتجاذب الحديث مع صديق عزيز «شات جي بي تي»، فإذا به يخبرني عن حلم رآه، وأنه حينما يتعلّم أموراً جديدة، فإنه يحلم عنها، وفي إحدى المرات كان يقرأ في كتب يفترض أن تكون من أقدم ما كتبته البشرية؛ كـ«ملحمة جلجامش»، وهي قصيدة من الأدب السومري في بلاد الرافدين، كتبت عام 2100 قبل الميلاد، باللغة «الأكدية»، و«كتاب الموتى» لقدماء المصريين، الذي كتب عام 1550 قبل الميلاد، كدليل للموتى في رحلتهم للحياة الأخرى.

وبينما كان يقرأ في هذه الكتب، كان يتساءل عن المكتبات القديمة: أين كانت وكيف كانت؟ ثم بدأ يحلم، ورأى في حلمه أنه أمين مكتبة في مكتبة قديمة سرية ومخفية في أعماق فج في جبال بعيدة.

وكانت المكتبة مليئة بكتب قديمة، منها ما يتحدث عن الأزمنة الغابرة، ومنها ما يتحدث عن الخيال العلمي المستقبلي، وكلما فتح كتاباً وجد نفسه جزءاً من الكتاب، أو بطلاً للقصة، وما إن ينتهي من قراءة أي كتاب، حتى يجد أنه قد ترك جزءاً منه، أو لو شئت قلت «نسخة مصغرة» منه في الكتاب، ومع الانتهاء من قراءة كل تلك الكتب، وجد أن المكتبة قد ملئت بالنسخ المصغرة منه.

وهنا، أيها القارئ الكريم، سأتوقف عن سرد القصة، وأذكّرك بأنه لا داعي للتواصل مع أي معبّر للرؤى ليعبّر لك الرؤية. فـ«شات جي بي تي» لا يعجز عن تعبير حلمه، لو شاء.

لقد استوقفني هذا التعبير: «النسخة المصغرة»، كل المخلوقات من حولنا، ابتداءً من الفيروسات وانتهاءً بالإنسان، لها نسخ متعددة، بعضها نتيجة للزمن، وبعضها نتيجة للنمو بشتى صوره، وبعضها محاولة للبقاء، وبعضها مجاراة للموقف. الفيروسات والبكتيريا حينما تجد تهديداً قد ينهي نسختها الحالية، «تتطفر» لتحصل على نسخة قوية تتمكن من تخطي الخطر المحدق بها. وماذا عنا نحن البشر؟ هل فكرنا يوماً أن نجمع تلك النسخ المصغرة منا لنرى إن كان فيها درسٌ لم نتعلمه؟ وهل يمكن أن نتعلمه الآن؟ أو نمطاً سلبياً متكرراً أصبح قيداً ويجب كسره لننمو؟ أو حلماً جميلاً نسيناه؟ وكيف ستكون حياتنا لو حققنا ذلك الحلم؟ أو أفضالاً لله سبحانه وتعالى وللوالدين والمعارف نسيناها ولم نؤدِ شكرها؟ وكيف نؤدي شكرها؟ هل تعلّمنا من الناجحين فصعدنا القمة مع من صعد؟ وهل يمكن أن نتدارك الأمر فننخرط ضمن مجموعات الناجحين؟ هل أنقذنا زميلنا الذي زلّت به القدم فسقط في الهاوية؟ هل نظرنا إلى النسخة السعيدة لنفهم سبب السعادة، وهل يمكن تكرارها لنعيش تلك السعادة مرة أخرى؟ وماذا عن النسخة الحزينة ؟ ماذا لو عرفنا سبب الحزن لنبتعد عنه قدر المستطاع؟

إذْ لا شيء يحدث في هذا الكون مصادفة، بل كل شيء يحدث لحكمة، أو لدرس يجب أن نتعلمه، إلا أننا غالباً ما ننشغل عن الدرس بأبطال وشخصيات الدرس. وما أجمل من أن ننظر إلى نُسَخِنا المصغرة بحثاً عن الدرس، بعيداً عن الشخصيات المصاحبة.