أصبحت صانعة الطائرات الأمريكية «بوينغ» مضرب المثل في استخدامها الأمثل لعلم «الأرغونوميكا» الذي يهدف إلى تصميم بيئات العمل وأدواته على نحو يزيد من الإنتاج والكفاءة، ويقلل من الجهد البدني والنفسي وتداعيات الإصابات.
ولأن الطائرة بطبيعتها لا تدخل خط الإنتاج في مراحلها النهائية نظراً لحجمها العملاق، فهي بحاجة إلى جيوش جرارة من الأفراد للقيام بأعمال متنوعة مثل تركيب البراغي وتوصيل الأسلاك ونقل الأشياء ولحام القطع المعدنية.
كل ذلك قد يعرض الأفراد للأذى والإرهاق. ولذلك تم تصميم معدات عديدة من قبل مهندسين محترفين لشركة بوينغ مثل ما رأيته من «الهياكل الخارجية الصناعية» Exoskeleton التي تقلل الضغط على المفاصل وتخفف الإرهاق أثناء العمل.
ويرتدي العامل الهياكل كملابس خارجية، تشبه في تصميمها الهيكل المعدني الخفيف الذي يحيط بجسم الإنسان. وغالباً ما يغطي الساقين والركبتين، ويكون مفتوحاً من أماكن معينة ليسمح بحرية الحركة.
ومن المعدات الأخرى التي سهلت حياة الإنسان، نجد «القفازات الآلية» التي تعزز قوة القبضة وتقلل الجهد العضلي في المهام الدقيقة، و«أجهزة المساعدة على الرفع» التي تخفف الإجهاد الناتج عن رفع أشياء ثقيلة، و«أنظمة دعم الظهر» التي تقلل آلام الظهر الخطرة.
والتي قد تؤدي إلى إعاقة مزمنة. كما تُستخدم «دعامات الركبة» لتريح الركبتين عند الانحناء والجلوس، و«أجهزة تصحيح الوضعية» التي تقلل من التوتر العضلي أثناء تغيير وضعيات الحركة، وخصوصاً تلك التي تتطلب وقتاً طويلاً.
علم الأرغونوميكا (Ergonomics) يدرس العلاقة بين الإنسان وعناصر البيئة المحيطة به، بهدف تحسين الأداء البشري والحفاظ على الصحة العامة. ويُستخدم بشكل عام في مجالات مثل تصميم المكاتب، والأدوات التقنية، والعمليات الصناعية، وحتى في تصميم المنتجات اليومية. وهو الذي يخبر المصنعين بكيفية تجنب الآثار السلبية للمنتجات مثل الكراسي أو الطاولات أو الآلات وكيفية تحسينها لتحقق الراحة والمتعة.
اللافت أن الإحصائيات العالمية كشفت أن الشركات التي تولي علم الأرغونوميكا في بيئات العمل اهتماماً، تسهم في تحسين إنتاج العاملين وتقليل معدلات الغياب بسبب الأمراض المرتبطة بالعمل، حيث تبين أنها تقلل من إصابات الإجهاد المتكررة بنسبة تصل إلى 61 في المائة.
كما أن استخدام الأدوات المصممة أرغونوميكياً قد يقلل من احتمال تعرض العمال لإصابات الظهر بنسبة تتراوح بين 20 و40 في المائة. وذكرت الجمعية الأمريكية للأرغونوميكا أن تطبيقات هذا العلم تقلل من الأخطاء في بيئات العمل بنسبة تصل إلى 30 في المائة، وفقاً للجمعية الأمريكية لمتخصصي السلامة.
هذا دليل على أن هوس التوفير في شراء أثاث مكتبي ومعدات وأجهزة رخيصة قد يدفع ثمنها الموظفون لاحقاً في تدهور صحتهم وتراجع حماستهم للعمل. فمن يحب أن يتصلب في كرسي غير مريح لنحو 1920 ساعة سنوياً لأن إدارته تستكثر عليه كرسياً مناسباً وصحياً؟
لذلك يرى المنادون بضرورة تعزيز تطبيقات الأرغونوميكا أنها تسهم في تقليل الألم الجسدي في الرقبة والكتفين والمرافق والأطراف والحواس.
لقد قرأت في دورية علم العمل دراسة تشير إلى أن جذور مفهوم الأرغونوميكا تعود إلى عالم الفسيولوجيا البولندي فويتشيخ غاسغيمبوفسكي الذي استخدم المصطلح لأول مرة في عام 1857.
وبدأ العمل الجدي في هذا المجال في فترة الحرب العالمية الثانية عندما ظهرت الحاجة لتحسين تصميم الأدوات والآلات لتقليل الإجهاد البشري وزيادة الكفاءة. ومنذ ذلك الحين، تطور العلم ليشمل العديد من الجوانب مثل الصحة والسلامة المهنية، وتصميم المنتجات، والتفاعل بين الإنسان والحاسوب.
وقد دخل علم هندسة العوامل البشرية (الأرغونوميكا) في مجالات عديدة لتحسين حياتنا كمجال الفضاء والصناعة ووسائل النقل والمنتجات المنزلية وبيئات العمل. وهو ما يعد قفزة كبيرة في حياة البشرية نحو مزيد من الرخاء واحترام الإنسان وحاجاته ورغباته.