الإدارة تحت المجهر: قراءة كيميائية في ديناميكيات العمل المؤسسي

 في عالم الإدارة، كما في عالم الذرات، تكمن القوة في التفاعلات الخفية بين عناصر صغيرة، تُشكل معاً منظومة معقدة وديناميكية. فما الذي يحدث عندما ننظر إلى بيئة العمل من خلال عدسة الكيمياء؟ كيف يمكن لفهم التفاعلات الكيميائية، أن يُلقي ضوءاً جديداً على طرق قيادة الفرق وبناء المؤسسات؟ في هذا المقال، سنغوص في قراءة كيميائية للإدارة، نربط بين قوانين الذرة وسلوك البشر في بيئة العمل، لنكتشف معاً كيف تتشكل الديناميكيات الإدارية، وكيف يمكن للقائد أن يصبح بمثابة «نواة»، يعمل على جذب المحيطين به والتأثير فيهم، في حين تدور «الإلكترونات» حوله بحيوية وفاعلية.

تخيّل نفسك تتنقّل داخل مؤسسة، كما لو أنك تتجوّل في نواة ذرة، كل شيء يبدو نمطياً على السطح، لكن في العمق، هناك عالم من التفاعلات الصامتة. هناك طاقات كامنة، ودوائر من الحركة، ومجالات جذب ورفض. هناك عناصر تتنافر، وأخرى تندمج مع بعضها. قد لا تُرى هذه التفاعلات، لكن آثارها تظهر على السلوك، وكذلك على كل من القرارات والنتائج.

الإدارة في جوهرها، ليست إلا تفاعلاً مستمراً بين عناصر بشرية. كل موظف هو إلكترون يدور في مداره الخاص، حاملاً شحنته من المشاعر، والطموحات، والمخاوف. أما القائد، فيشبه البروتون داخل نواة الذرة، مركز الجذب، والثبات، والتأثير. قد يتغير موقع الإلكترونات أو طاقتها، لكن النواة تبقى هي الركيزة التي تحدد هوية الذرة واتزانها. وفي بعض الأوقات، لا يكتمل التفاعل إلا بدفعة خارجية، تُعيد تنشيط المنظومة، وتُحفّز ذراتها على الحركة والانطلاق.

في الكيمياء، هناك تفاعلات تُنتج حرارة، وأخرى تمتصها. كذلك في بيئة العمل، هناك اجتماعات تُشعل الحماس، وأخرى تُبعثر الطاقة، وتوقظ مشاعر الملل في النفوس. هناك فرقٌ إذا اجتمعت، ولّدت طاقة إيجابية خلّاقة، وإن تفككت، تركت وراءها رماداً إدارياً كئيباً، لا يصلح لبناء شيء.

الاضطراب في الكيمياء يُعرف بـ «الإنتروبي Entropy»، ويقابله في الإدارة حالة التشتت، وغياب الرؤية، وفوضى الإجراءات. و«الإنتروبي» لا يعني الفوضى، بقدر ما يعني أن النظام يحتاج إلى طاقة جديدة ليعود إلى الاتزان. كذلك الإدارات، إذا تُركت لتسير بآلية عشوائية، تفقد طاقتها، وتدخل في سُبات بطيء.

لكن الجمال الحقيقي في التشابه بين الإدارة والكيمياء، هو أنه يذكرنا بأن كل عنصر جديد — مهما بدا صغيراً — قد يُعيد توزيع القوى داخل المنظومة. دخول موظف جديد ليس تفصيلاً بسيطاً، بل تفاعلٌ يُضيف طاقة أو يغيّر مساراً. وسياسة جديدة، قد تكون بمثابة عنصر نشط، يُطلق سلسلة من التغيُرات داخل بيئة العمل. كل تغيير، مهما بدا عرضياً، يحمل في طيّاته أثراً مركباً.

ليست هذه دعوة لتحويل المؤسسات إلى مُختبرات، بل إلى التفكير فيها كأنظمة حيّة، وحسّاسة، ومُتغيّرة، تحتاج إلى عين عالِم وقلب إنسان. فكما تُصاغ المعادلات الكيميائية بدقة، تُبنى الإدارات الناجحة على توازن دقيق بين التفاعل العاطفي، والتحليل العقلي المتّزن.

ختاماً، يمكننا القول بأن الإدارة ليست علماً مجرداً، بل كيمياء إنسانية، والذكاء ليس فقط في صياغة السياسات، بل في معرفة متى يكون الصمت أكثر فاعلية من القرار، ومتى تكون اللمسة الإنسانية أقوى من أي نظام رقمي.