الانعزالية الأمريكية

في أواخر القرن التاسع عشر ومع الثورة الصناعية، كانت الولايات المتحدة منشغلة بالوضع الداخلي لإدارة التغيرات الكبيرة التي تشهدها البلاد. ولكن زيادة الإنتاج تطلب البحث عن أسواق خارجية.

وقد صرح السيناتور ألبرت بفريدج في العام 1898، بأن التوسع الخارجي للحصول على أسواق جديدة مهم جداً للولايات المتحدة. فالمصانع الأمريكية تنتج أكثر مما تستهلكه البلاد، وأراضي أمريكا تنتج محاصيل أكثر مما يحتاجه الناس. وبذلك قدر لنا أن نتبع سياسة تكون فيها التجارة العالمية لنا.

وقد تزعم هذا التوجه ثيودور روزفلت، والذي سيصبح الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة. وكان روزفلت يروج للتوسع الخارجي والسيطرة على أراضٍ وأسواق ومنتجات دول الجنوب القريبة والبعيدة.

وقد شرع من موقعه كمساعد لوزير البحرية لتطوير القدرات البحرية الضرورية للتوسع. وقد شهد ولايته في البحرية بناء سفن وموانئ والاستحواذ على تكنولوجيات حديثة لتحقيق المطامح. وقد استمر على هذا المنوال أثناء رئاسته 1901 - 1909.

وقد استمرت الرغبة في التوسع الخارجي إلى انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى لأسباب جيوسياسية وأسباب تجارية. ولكن هذا التورط في الحرب العظمى أدى إلى ردة فعل وأصبحت الولايات المتحدة منعزلة.

جذور الانعزال يعود إلى ما قبل هذا التاريخ. فقد حذر الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن في خطبة الوداع من التشابك في تحالفات خارجية أو ما أسماه «التعلق العاطفي» بدولة أجنبية.

وفي هذا المنحى، أعلن الرئيس الأمريكي جيمس منرو في 1823 عن مبدأ النأي بالولايات المتحدة عن الشأن الأوروبي. كما أعلن أن الولايات المتحدة لن تسمح بتدخل الأوروبيين في شؤون أمريكا الجنوبية فضلاً عن إنشاء مستعمرات جديدة لها.

ولكن وصلت حالة الانعزالية أشدها في الثلاثينات من القرن المنصرم. كانت تلك ردة فعل للحرب العالمية الأولى ولفشل سياسات الرئيس ودروو ويلسون الليبرالية.

وعندما لاحت الحرب في أوروبا بصعود التيارات الفاشية المتمثلة في النازية الألمانية والفاشية الإيطالية قبلها. وبدأت الحرب تطل برأسها بين المحوريين الرئيسين، شرع الكونغرس الأمريكي بتمرير قوانين لمنع الولايات المتحدة من التدخل في صراعات أوروبا.

وكان أهم التشريعات قانون جونسون للعام 1934، والذي منع تقديم العون للدول الأوروبية المتنازعة، وقوانين الحياد 1935 - 1936، والذي منع المساعدات لهذه الدول في النزاع والذي تطور إلى الحرب العالمية الثانية.

ولكن الهجوم على بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941 من قبل اليابان قلبت الموازين. وخرجت الولايات المتحدة من عزلتها وانغمست في الحرب العالمية الثانية بلا هوادة.

وقد ظهرت في القرن الماضي فلسفة سياسية أمريكية تسمى «بيليوكونسيرفيتزم» أو المحافظة الأصلية. برزت هذه الحركة في الثمانينات من القرن الماضي مع صعود التيار المساند للرئيس رونالد ريغان كردة فعل للرفاه والإصلاحات الليبرالية التي أسسها فرانكلين روزفلت قبل عقود لمواجهة الكساد العظيم.

وتنادي الحركة إلى العودة للقيم المسيحية والتقاليد الأمريكية المحافظة. كما تروج الحركة إلى القومية الاقتصادية ومناهضة الليبرالية الاقتصادية والعولمة. وتدعو الحركة إلى خفض الهجرة ووضع قيود على التنوع الثقافي.

ومن أهم النقاط في هذا التيار إعادة هيكلة الفيدرالية الأمريكية وضبط مركزيتها وتقوية المحلي على حساب الاتحادي. والأهم من ذلك تدعو الحركة إلى عدم التدخل في المشاكل الخارجية والتي تستنزف القوة الأمريكية.

الانعزالية الأمريكية لها جذور ثقافية وفلسفية واجتماعية في الولايات المتحدة. وما التيار الذي يقوده الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إلا تجلٍ جديد لفلسفة قديمة. هل سينجح ترامب في تحقيق مآرب الحركة أم أن السياسات الجديدة ستشق المجتمع الأمريكي وتتزايد حدة الاستقطاب. وقد قيل قديماً لكل شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد.