صفية البهلاني.. عُمانية تحدت إعاقتها بالفن والإبداع

في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، هناك أسماء وشخصيات كثيرة من الجنسين، قدر الله لها أن تكون ضمن الفئات المحرومة من نعمة الصحة الكاملة، وبذلك صارت تصنف ضمن فئة «أصحاب الهمم». غير أن خالقها بقدر ما حرمها، لغاية لا ندركها، بعض القدرات الجسمانية، فإنه عوّضها بمواهب تفوق مواهب الأصحاء، ومدها بإرادة حديدية قد لا نجدها عند غيرها.

وبهاتين الصفتين شقت طريقها نحو صنع المستحيل لتغدو نماذج يشار إليها بالبنان في أوطانها وخارج أوطانها أيضاً. لا نتحدث هنا عن النماذج المعروفة عربياً مثل الدكتور طه حسين (1889 - 1973) الذي حرم نعمة البصر ولكنه، على الرغم من حياة الظلام، غدا علماً من أعلام الأدب العربي بعدما أكمل بنجاح جميع مراحل تعليمه الأساسية والجامعية والعليا وتبوأ الحقائب الوزارية. وبالمثل لا نتحدث عن نماذج معروفة عالمياً مثل هيلين كيلر (1880 - 1968) المحاضرة والناشطة الأمريكية التي فقدت السمع والبصر منذ طفولتها، ولكنها كافحت وتكيفت مع مجتمع الأصحاء وشقت طريقها بإرادة حديدية حتى أكملت دراستها الجامعية وبرزت شخصية اجتماعية في الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية.

نحن هنا نتحدث عن مواطنة من أرض الخليج والجزيرة، وتحديداً من سلطنة عُمان شاء لها المولى عزّ وجل أن تولد بعدة إعاقات جسدية، ومنها قصر في الساعدين، وعدم وجود يدين وكفين، وتشوه في الركبة اليسرى، وقصر في الساق اليمنى، وصمم في الأذن اليمنى، علاوة على مشكلات في النطق تغلبت عليها لاحقاً. هذه الفتاة العُمانية هي الفنانة ومصممة الغرافيك والناشطة في مجال حقوق ذوي الهمم والمحاضرة التحفيزية البارعة صفية البهلاني.
ولدت صفية في العاصمة العُمانية، مسقط، في سنة 1986 وهي تعاني الإعاقات العديدة التي ذكرناها، وهو ما جعل والديها يخجلان من إنجابها ويودعانها أحد المستشفيات ويتخليان عن مسؤوليتهما تجاهها، لتمضي سنوات طفولتها الثلاث الأولى محرومة عطف وحنان والديها فوق حرمانها نعمة الحركة الطبيعية ونعمتي السمع والنطق إلى حد ما.

في سن الثالثة، بعث الله لها بمن يتبناها ويغدق عليها الحب والعطف اللذين حُرمتْهما ويتحمل مسؤولية رعايتها، وفوق ذلك يمنحها اسماً وهوية لتصبح «صفية البهلاني». لم يكن هذا الشخص سوى مواطنتها صباح محمد البهلاني التي كانت وقتذاك تعمل بوزارة الصحة العُمانية ضمن برنامج يهدف إلى تثقيف الآباء والأمهات بكيفية التعامل مع الأطفال ذوي الإعاقة الجسدية أو غيرها.

دعونا أولاً نتعرف على صباح البهلاني التي كانت بمنزلة المبعوث من الله جل وعلا لإنقاذ صفية وتأهيلها ودمجها في المجتمع. فطبقاً لما كتبته عنها مجلة «المرأة» العُمانية (5/11/2020) هي الرئيسة التنفيذية لـ«جمعية التدخل المبكر»، وهي جمعية تم إشهارها بقرار وزاري في سنة 2000، والوحيدة من نوعها في سلطنة عُمان لتقديم خدمات للأطفال ذوي الإعاقة منذ سن مبكرة، فتعنى الجمعية بتقديم الخدمات التشخيصية والتدريبية والتعليمية للأطفال للوصول بهم إلى أعلى درجة ممكنة من الاستقلال والاعتماد على النفس والاندماج في المجتمع.

بدأت صباح البهلاني، التي ولدت ونشأت ونالت تعليمها الأولي في كينيا، ابنة لعائلة عُمانية هاجرت قديماً إلى شرقي أفريقيا، حينما كانت تلك الديار جزءاً من الإمبراطورية العُمانية، مسيرتها من وزارة الصحة العُمانية قبل نحو 32 عاماً، وكان عملها الأساسي وقتذاك توعية المجتمع في المجالات التي تخص الصحة مثل رعاية الأم والطفل والتطعيم والملاريا والمجالات الأخرى الخاصة بالأمراض الوراثية والمزمنة كالسكري وضغط الدم والسرطان، وذلك عبر إنتاج المطبوعات والبرامج المرئية والسمعية التي تعرض في المراكز الصحية والمجتمع، وبرامج أخرى ترتكز على زيارة الأسر في المنازل والمجالس والأماكن العامة. كما عملت في المجال نفسه مع منظمة يونيسيف في المكتب الإقليمي للشرق الأوسط بمقره في الأردن سنتين ونصف سنة، فكانت مسؤولة عن الاتصال من أجل التنمية، وكان دورها يرتكز على مساعدة دول المنطقة وتدريبها للقيام بالخطط والبرامج ذات العلاقة.

أنهت صباح البهلاني دراستها الجامعية في مجال الصحة المجتمعية بالولايات المتحدة مبتعثة من قبل الحكومة العُمانية، ثم عادت إلى السلطنة لتعمل في مجال تخصصها، وفي هذه الفترة زارت المستشفى الذي كانت تقيم فيه صفية، وتعرفتْ إلى أوضاعها الصحية ونوع إعاقتها، وأسباب وجودها هناك. وذات عيد من الأعياد قررت صباح أن تفرج عن هموم صفية وتمنحها جرعة معنوية فأخذتها إلى دارها كي تخالط من في سنها وتلهو معهم أول مرة، وتنال نصيبها من نقود «العيدية» التي فاجأتها ولم تعرف ما تفعل بها، بل لم تستطع الإمساك بها لافتقادها الأصابع والكفين. ومن هنا بدأت قصة تعلق صفية بصباح. إذ رفضت الأولى العودة إلى أجواء المستشفى الكئيبة وألحت أن تبقى مع الثانية، فكان الحل أن تتبناها رسمياً.

ما حدث بعد ذلك أن صباح البهلاني ابتعثت مجدداً إلى الولايات المتحدة لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، فقررت أن تأخذ صفية معها، وخصوصاً أن صفية كانت قد بلغت وقتذاك سن دخول المدارس، ناهيك عن أن السلطنة لم تكن فيها في تلك الفترة مدارس بمواصفات خاصة تخدم ذوي الهمم. وفي الولايات المتحدة التي ينتشر فيها ذلك النوع من المدارس إضافة إلى مئات الجمعيات التي تساعد الآباء على التعامل مع طفل من ذوي الإعاقة، تعلمت صباح الكثير من الطرائق والأساليب الحديثة للتعامل مع ابنتها المتبناة وتعليمها وتدريبها وتلبية احتياجاتها الخاصة. فأدت دوراً مؤثراً في حياة صفية لجهة دمجها في المجتمع واستخراج ما في داخلها من مواهب، قبل أن تؤدي الدور نفسه في حياة عُمانيات أخريات يعانين المشكلات نفسها عبر المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية، الأمر الذي استرعى انتباه الجهات الرسمية، فتم تكريمها بأمر سلطاني من لدن السلطان الراحل قابوس بن سعيد رحمه الله بتعيينها عضواً في مجلس الدولة.

من ناحية أخرى، أتيحت لصفية في الولايات المتحدة فرصة الخضوع لجلسات مكثفة لعلاج ما كانت تعانيه منذ طفولتها من صعوبات في النطق، ومن صمم كامل في إحدى أذنيها، كما أجريت لها جراحة لتسهيل ارتدائها أطرافاً صناعية متى ما رغبت. وهناك أيضاً التحقت بالمدرسة فبرعت في الرسم والفنون. وحينما عادت إلى مسقط لم يتم قبولها في المدارس الحكومية في السلطنة بسبب إعاقتها الحركية، وعدم جهوزية تلك المدارس لاستقبال من كان مثلها، فالتحقت بالمدارس الأهلية، ولكن هذه المدارس أيضاً كانت تفتقر إلى من يقدم لها الدعم والمساندة، ما تسبب في تأخرها دراسياً. وهو ما دعاها إلى الالتحاق بالمدرسة الأمريكية الدولية في مسقط (TAISM)، حيث وجدت الدعم والمساندة، فأكملت دراستها الثانوية ونجحت في الحصول على الدبلوما الأمريكية.

انتقلت صفية، بعد ذلك، إلى المرحلة الجامعية، ورغبت في دراسة التصميم الغرافيكي graphic design، فاختارت أن تسافر إلى الأردن في سنة 2007 للدراسة هناك في «معهد نيويورك للتكنولوجيا»، ولكنها سرعان ما اكتشفت أن الدراسة في ذلك المعهد لا تناسبها ولا تلبي طموحاتها. ثم وجدت ضالتها في الكلية الأسترالية للفنون الإعلامية في العاصمة الأردنية «Sound Audio and Engineering»، حيث يعتمد التعليم فيها على الجانب العملي والمهارات، ويوجد فيها العديد من الأشخاص من ذوي الإعاقة؛ الجسمية والصمم وذوي الإعاقة الذهنية البسيطة، ناهيك عن أن الكلية توفر الدعم والمساندة عبر إعطاء العمل الوقت الإضافي وقيام خريجيها تطوعاً بدعم الطلبة الآخرين.

وهكذا استطاعت صفية أن تنهي دراستها الجامعية بنجاح، وتنطلق. هذا علماً أنها، في تحدٍّ واضح لإعاقتها، فضلت إبان دراستها في كليتها الأسترالية أن تختار تخصص الرسوم المتحركة الذي يعتمد على حركة اليدين لتحقيق الإبداعات، فأصبحت قادرة على استخدام لوحة مفاتيح الحاسوب في الرسم الكرتوني. وعلى الرغم من تخصصها هذا الذي أظهرت فيه براعة ودقة مشهودة، فإنها لم تنسَ رسم اللوحات التشكيلية ومعارضها. فحينما عادت إلى وطنها من رحلتها الدراسية في الأردن، راحت تبحث عن وظيفة ولكن الأقدار وضعت في طريقها مرة أخرى امرأة من مواطناتها العُمانيات، فتعاونتا على تأسيس معرض يضم 40 لوحة فنية و20 فستاناً مستوحاة من مواضيع خطب السلطان السنوية إلى أبناء شعبه. فلقي هذا المعرض الذي أقيم بمسقط في مارس من سنة 2011 نجاحاً كبيراً. بعدها شعرت صفية بأن الرسم بالألوان الزيتية والأكريليك ليس إبداعاً كافياً، فلجأت إلى تزيين لوحاتها بالتطريز والشرابات العُمانية التقليدية.

تلا ذلك قيامها بإقامة معارضها الفنية الفردية، ثم توالت مذاك معارضها في الجامعات والكليات الخاصة في السلطنة وكذلك في بنك مسقط والمركز العُماني الفرنسي، وسط حضور كبير ودهشة من قبل الجمهور الذي لم يستوعب أن اللوحات الفنية المعروضة، التي تراوحت موضوعاتها ما بين التراث العُماني الأصيل وقضية تمكين المرأة العُمانية، رسمتها يد ليس بها أصابع تمسك القلم والفرشاة. وبهذا تجاوزت صفية عقدة لازمتها فترة طويلة وشكلت نقطة ضعف لديها وهي خوفها من رسم اليدين، فأمضت سنواتها المبكرة وهي ترسم الأشخاص بلا أيدٍ. إذ كيف لها أن ترسم ما لا تملك؟!

في أعقاب تلك النجاحات افتتحت صفية البهلاني مرسمها الخاص تحت اسم «غاليري ومرسم صفية»، حيث أطلقت منه مجموعة جديدة من الأعمال الفنية بالتعاون مع مصممة المجوهرات العُمانية هناء اللواتي. وفي سنة 2018 تم اختيارها لإعداد التصاميم البصرية والعلامات التجارية لعربات النقل البيئية في منطقة الموج بمسقط.

وتستخدم صفية في تنفيذ لوحاتها، الفحم وأحياناً تفضل الرسم بألوان الباستيل، وفي أحايين أخرى تلجأ إلى الرسم بالألوان الزيتية، وهو الأصعب لديها لأنه يأخذ زمناً كي يجف قبل الإضافة إليه، كما أنها تجيد استخدام الجص ودهانات الإكريليك سريعة الجفاف في رسم لوحاتها، ما يعطيها سماكة نافرة وجمالاً فوق جمال. علاوة على ما سبق، برعت صفية في استخدام الأقمشة والذهب والخرز والإكسسوارات في صناعة بعض لوحاتها، وهو ما يُـعرف بفن الديكوباج.

والحقيقة أن صفية لم تكتفِ بكل هذا، وإنما تجاوزت إبداعاتها مجالات تخصصها في الرسوم المتحركة والفنون التشكيلية «لتأخذك بحركات انسيابية رشيقة إلى إتقان العزف على آلة البيانو التي تحتاج إلى أصابع اليدين، معتمدة على انحناء كتفيها لتصل الكتلتان اللحميتان المتدليتان من يديها فتطال لوحة المفاتيح وتعزف أجمل الألحان عبر الانتقال السريع من زر لآخر»، بحسب ما كتبته عنها محررة مجلة «المنال» الصادرة عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية في أحد أعدادها. وإذا كانت هذه إحدى هواياتها، فإن هوايتها الأخرى هي السباحة التي تعتمد في ممارستها على كتفيها وقدمها الوحيدة وقوة عضلات بطنها.

ومن أنشطتها الأخرى إلقاء المحاضرات التحفيزية بين وقت إلى آخر عبر مؤتمرات «تيد إكس» وبرامجها الهادفة للابتكار والإلهام والاكتشاف، فقد شاركت في تيد إكس مسقط في نوفمبر من سنة 2013 مع أمها الدكتورة صباح البهلاني، فتحدثت عن الظروف التي جمعتهما وتجربتهما الحياتية معاً، ثم شاركت مرة أخرى في تيد إكس في يناير من سنة 2014 بمعهد روزي فقدمت محاضرة بعنوان «التحدي سلاحك».

وفي حوارها مع مجلة «المنال» (مصدر سابق) تحدثت عن مشاريعها المستقبلية ومن بينها إعداد وتنفيذ فيلم كرتوني ترصد فيه مشكلات الشباب العُمانيين وذلك بهدف توجيه رسالتين لصناع القرار والمجتمع: ملخص الأولى وجود فئة شبابية كبيرة في السلطنة تبحث عن نفسها، وتحتاج إلى من يرعاها ويأخذ بيدها ويفتح أمامها أبواب الأمل والعيش الكريم، وملخص الثانية أن ذوي الإعاقة بحاجة إلى الدعم والاهتمام المستمرين لإخراج ما في داخلهم من مواهب ومهارات وطاقات.