جمعتهما «آسيان» وفرقتهما السياسة

تفجر مؤخراً صراع عسكري بين تايلاند وكمبوديا، الدولتين الجارتين والعضوين في رابطة آسيان، على إثر تبادل جيشيهما إطلاق النار عبر حدودهما المشتركة، البالغ طولها نحو 800 كيلومتر، ثم توسعت اشتباكاتهما، وامتدت إلى سواحل البلدين البحرية المطلة على خليج تايلاند، وسط مخاوف إقليمية ودولية من اندلاع حرب شاملة بينهما.

وتفادياً لذلك، أقدمت الولايات المتحدة، في شخص رئيسها دونالد ترامب، على التدخل عبر اتصاله بقيادة البلدين، وحثهما على وقف إطلاق النار، والبدء في حوار ثنائي لمعالجة الخلافات.

ويبدو أن الأمور، وقت كتابة هذا المقال، تتجه نحو التهدئة، من خلال مفاوضات ثنائية في ماليزيا، خصوصاً بعد أن أعربت الخارجية التايلاندية عن موافقة بانكوك «من حيث المبدأ»، على إجراء محادثات سلام مع بنوم بنه، مضيفة: «تود تايلاند أن ترى نية صادقة من الجانب الكمبودي».

وكانت كمبوديا، وهي الجانب الأضعف في الصراع من الناحية العسكرية، طالبت على لسان مندوبها في الأمم المتحدة، خلال جلسة مغلقة لمجلس الأمن، بوقف فوري لإطلاق النار ــ من دون شرط ــ والشروع في مفاوضات ثنائية لحل الخلافات سلمياً.

حدث ذلك، فيما استمر الطرفان في تبادل الاتهامات، وإلقاء كل طرف اللوم على الآخر في بدء الاشتباكات، وتوسيع نطاقها، والتسبب في قتل المدنيين وتهجيرهم.

والحقيقة أن كلا الجانبين في حاجة إلى إنهاء الصراع بوسائل سلمية، بدلاً من التصعيد، خصوصاً أن تايلاند تشهد أزمة سياسية في الوقت الراهن، ويديرها رئيس وزراء مؤقت، بعد أن قضت محكمتها الدستورية بإيقاف رئيسة الحكومة السابقة، باتونغتارن شيناواترا، عن العمل، على خلفية انتهاكات تتعلق بالنزاع التايلاندي ـ الكمبودي الراهن.

أما الجانب الكمبودي، فهو الآخر ليس من مصلحته التصعيد، ليس فقط بسبب تواضع قدراته العسكرية، مقارنة بالتفوق العسكري التايلاندي الهائل، سواء لجهة العديد أو التدريب، أو لجهة الأسلحة الأمريكية المتطورة (حيث إن كمبوديا مثلاً لا تملك سوى بضع مروحيات في سلاحها الجوي.

بينما تمتلك تايلاند الكثير من مقاتلات إف 16 الحديثة)، إنما أيضاً بسبب مشاكله الاقتصادية المزمنة، لا سيما بعد رفع الرسوم الجمركية على صادراته إلى الأسواق الأمريكية بنسبة 49 %.

البعض من غير المطلعين على تاريخ البلدين، يستغرب من انفجار الصراع بينهما فجأة، ويتساءل عن خلفياته. إنّ ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن الصراع الجاري اليوم ليس الأول من نوعه، وأن له جذوراً تاريخية، تعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي لكمبوديا.

والذي رسم الحدود الفاصلة بين البلدين عام 1907 بشكل سريع وغير واضح، فجعل معابد تاريخية وأراضي تحيط بها تتبع كمبوديا، رغم علمه بمطالبة التايلانديين بها.

ومذاك بدأت الخلافات بين الجارتين، وإنْ مرت فترات طويلة لم نشهد فيها تصعيداً، بسبب انشغال كمبوديا بصراعات وحروب أهلية ذات أبعاد خارجية من جهة، وانشغال تايلاند بأوضاعها السياسية غير المستقرة.

الاشتباك الأول بين قوات البلدين، على خلفية هذه القضية، حدث في عام 1962، ووقتها سارع الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، البورمي يو ثانت، باستخدام صلاحياته، واعتمد على آلية «المساعي الحميدة» (Good Offices)، لإيفاد مبعوث شخصي من قبله، بهدف دراسة الأوضاع الحدودية.

وتقديم تقرير حولها، وجاء التقرير في صالح كمبوديا، التي كان يتزعمها وقتذاك الأمير نوردوم سيهانوك، بل تمّ تأييد القرار من قبل محكمة العدل الدولية.

تلا ذلك، وتحديداً في عامي 2011 و2013، حدوث مناوشات عنيفة بين البلدين حول القضية نفسها، فتم عرضها على محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي أكدت مرة أخرى أن ملكية المعبد والأراضي المتنازع عليها تعود لكمبوديا.

بينما رفضت الحكومة التايلاندية القرار، قائلة إنها لا تعترف باختصاص المحكمة الدولية، وأنه يجب التوصل إلى حل من خلال المفاوضات الثنائية.

وفي مايو المنصرم من العام الجاري، اشتبكت قوات البلدين عبر الحدود في منطقة «المثلث الزمردي»، المتميزة بالأحراش والغابات ومزارع المطاط، حيث تتقاطع حدود تايلاند وكمبوديا مع حدود لاوس، وسط ادعاء كل طرف بانتهاك سيادة الطرف الآخر.

ولا نبالغ لو قلنا إن ما زاد الأزمة اشتعالاً، هو وقوف البلدين على طرفي نقيض، من حيث سياساتهما الخارجية، ماضياً وحاضراً. فمملكة تايلاند هي حليف تاريخي للغرب في منطقة جنوب شرق آسيا.

ولعبت أدواراً مساندة لحروب واشنطن في فيتنام، وتدخلاتها في الهند الصينية، زمن الحرب الباردة، أما كمبوديا، فقد كانت تاريخياً على النقيض من ذلك، ثم صارت ضمن حلفاء الصين الشيوعية، بعد أن فقدت حيادها في الستينيات. وهي الآن تحتفظ بعلاقات دافئة مع بكين، بل متهمة بأنها صوت الصين داخل أروقة تكتل آسيان.