نحو مدرسة فلسطينية للاعنف

منذ 50 عاماً، أقر المجلس الوطني الفلسطيني، بإمكانية التواصل والتحاور مع القوى الإسرائيلية العاطفة على بعض الحقوق الفلسطينية، التي عُرفت وقتذاك بمعسكر السلام.. وأوكلت تلك المهمة لفريق ترأسه محمود عباس، المنحاز تاريخياً للحل السلمي، والذي انبرى لاحقاً لترؤس المفاوضات التي انتهت باتفاق أوسلو.

اليوم توارت حمائم هذا المعسكر، وخلت الساحة الإسرائيلية بشكل بارز للصقور اليمينيين المتعطشين، بقيادة نتنياهو، لفرض رؤيتهم لتسوية لا مكان فيها للاعتراف بالحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين.. وذلك باستخدام كل الوسائل غير المشروعة، دون استثناء الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

كل المياه التي جرت في نهر السياسة الإسرائيلية، لا سيما خلال الـ 30 عاماً من حكم اليمين المتطرف، جاءت معاكسة تماماً لأفكار أبو مازن.. ومع ذلك، يحسب للرجل تعلقه بهذه الأفكار، قبل وبعد ترؤسه لحركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية.

وربما يسجل باسمه أيضاً النجاح في ترسيخ مبادئه والترويج لها، حتى ليمكن اعتباره صاحب مدرسة ومنهجية فلسطينية بهذا الخصوص.. هي المهيمنة راهناً على مؤسسات صناعة القرار، والعقل السياسي الفلسطيني المتنفذ.

بريادة أبو مازن، ومباركة الزعيم الراحل ياسر عرفات، انتقلت هذه المؤسسات من منهجية الكفاح المسلح إلى المقاومة المدنية.. ومع ذلك، ليس ثمة ما يؤكد أن أنصار هذه النقلة النوعية يستحوذون علي إطار نظري ودليل عملي لدفوعهم ومحاجاتهم.

لا يوجد حتى الآن بناء فكري مشفوع بالتفصيلات، يعرض لكيفية اجتراح المقاومة المدنية الفلسطينية يأخذ بعين الاعتبار محدداتها وبيئتها وطبيعة الصراع!

ما يوفره اللاعنفيون الفلسطينيون، لا يتعدى توليفة أدبية، وتطبيقية عشوائية، تعتمد علي مطالعات لتجارب عالمية أو إقليمية، بعضها لا صلة له بنمط قضيتهم.

هذه المراوحة بين العنف واللاعنف، تؤكد أن الشعب الفلسطيني تلمس كل السبل لانتزاع حقوقه، غير أنه يصح النظر للأمر بشكل آخر، موجزه فضفاضية التعامل مع الوسائل التحررية والمفاضلة بينها، علي غير هدى ولا بصيرة من نجاعتها.

ما ينبغي الاعتراف به موضوعياً، عدم التناسب بين التضحيات والإنجازات على مساري العنف واللاعنف. ويتعين على فريق اللاعنف، أن يسهر ويبذل جهداً أكبر، لأجل تعزيز جدارة اتجاهه.

مرور حقبة ممتدة علي الترويج لمفهوم المقاومة اللاعنفية، فضلاً عن معايشة تجربة غنية بحجم الانتفاضة الأولى.. هذا كان يكفي وزيادة لبلورة نموذج خاص لهذا المفهوم.

لكن ظاهر الحال وباطنه، لا يوحي بذلك، فاللاعنفيون ما زالوا يلوكون أحاديثهم، مستلهمين نماذج الآخرين بلا تدبر في الفروق. وأهم من هذه النقيصة، إغفالهم للسياق الموضوعي المحيط بتجربتهم بين مرحلة وأخرى من مراحلها وأطوارها.

كذلك، على اللاعنفيين ألا يغفلوا أنه لكي يحقق نهجهم بعض أهم مراداته، كالمقاطعة والعصيان المدني، لا بد من التوجه جدياً إلى فك الارتباط الاقتصادي والمالي مع الاحتلال.. وتخليق الفرص والبدائل الذاتية، لتخفيض ثمن هذا الانفصام، الأمر الذي يبدو بعيد المنال، بالنظر لاتفاق أوسلو وتوابعه، الذي شدد هيمنة إسرائيل والمانحين اقتصادياً ومالياً، على رقبة الضفة وغزة!

إلى هذا، هناك شروط هيكلية أخرى لنجاح المقاومة المدنية، يتصل أبرزها بتماسك الأوضاع البنيوية للمجتمع المعني، ومستوى التلاحم القيادي والانضباط الحركي والاستمرارية.

النظرية تشير إلى مدى وفرة المؤسسات التي تتركز فيها مواضع القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ومستوى صلابتها ووحدتها، وتدفق الاتصال داخل كل مؤسسة منها، وفي ما بينها جميعاً.. كما أن وحدة القيادة، على مستوى صناعة القرار وطرح المطالب وتوزيع المهام والأعباء الميدانية، شروط لا غنى عنها، لمجتمع يتطلع إلى مقاومة مدنية واعدة.

ترى، هل تأمّل اللاعنفيون الواقع الفلسطيني القائم في ضوء هذه المحددات؟.. تراودنا شكوك حقيقية حول توفر أهم شروط هذا التوجه. كيف لا، والانقسامات الداخلية تعصف بوحدة النظام السياسي، وبقوة أطر المجتمع المدني، على حد سواء؟!