النفور من الخسارة

يخاف المرء من الخسارة أكثر مما يفرح بالربح، حتى لو تضاعفت احتمالية الربح. ربما هذه المشاعر هي ما تحول دون خوضه غمار تجربة استثمارية أو مهنية جديدة. اكتشف العلماء هذه الحقيقة المثيرة عندما قاسوا ما يحدث في أدمغة الناس عند تحقيق مكاسب معينة.

فكانت السعادة معتدلة، في حين أن الخسارة البسيطة تولد خوفاً مضاعفاً للسعادة عند الربح، تجنب الخسارة شعور ينتاب المرء، أكثر من سعيه نحو تحقيق مكاسب بالقيمة نفسها.

النفور من الخسارة صار مفهوماً متأصلاً في الاقتصاد السلوكي، وهو علم بدأت تأخذ به بلدان وشركات كبرى عديدة، منها حكومة بريطانيا، حيث أنشأ رئيس وزرائها ديفيد كاميرون، خلال فترة توليه، وحدة مختصة بالاقتصاد السلوكي، في سابقة أولى من نوعها.

على سبيل المثال، اتضح للعلماء أن ألم خسارة ألف دولار، أشد وطأة نفسياً من متعة ربح القيمة نفسها، فإذا ما خُيّر أحدهم بين ربح ألف دولار، أو خطر خسارة المبلغ نفسه.

فغالباً ما سيرفض المجازفة، حتى لو كانت فرصة الحدوث متساوية، بعبارة أخرى، البشر عادة ما يحتاجون إلى احتمالية ربح 2000 دولار، مقابل احتمالية خسارة المبلغ نفسه، للقبول بتلك المجازفة.

نجد هذا السلوك بارزاً في الاستثمارات، فكثير من الناس يحتفظون بالأسهم الخاسرة، على أمل تعويض خسائرهم غير المحققة، ويبيعون الرابحة على عجل، خوفاً من خسارة مكاسبهم.

في علم التسويق كذلك نسمع عبارات تنبثق من هذه الفكرة، مثل الكمية محدودة، أو لا تفوّت الفرصة، وذلك في مسعى لاستغلال نفور الناس من الخسارة، لتحقيق مكاسب مادية تحميهم أو تشعرهم على أقل تقدير بالأمان.

في التفاوض، نرى كيف يرفض أحد الأطراف صفقة معقولة، ليس لسبب سوى أنها كانت دون سقف توقعاته المادية، فيشعر بأنه يخسر إن استمر. ربما هناك علاقة بين النظام التعليمي البالي، الذي غرس فينا النفور من الخسارة.

أو تحقيق درجات متدنية، مع أن الحياة عكس ذلك تماماً، فكل صدماتنا وخسائرنا، هي في الواقع ما صقلنا جيداً للتصدي للتحديات المقبلة بجسارة، فأكثرنا خسارة ربما أكثرنا تعلماً وقدرة على مواجهة نوائب الدهر.

عبر نظرية النفور من الخسارة loss aversion، يمكن معرفة مدى إقبال المرء على المجازفة، فالناس في سلوكياتهم المرتبطة بقبول المخاطر يختلفون اختلافاً كبيراً، بل ومحيراً.

فتجد المرء مستعداً للقفز المظلي أو عبر الحبل المطاطي (بنجي جمبيغ)، في حين تجده لن يُقدِم أبداً على أي استثمار فيه مخاطرة، والعكس صحيح!.. ولذلك ساعدنا العلم الحديث على معرفة بعض الجوانب الخافية في سلوكياتنا، منها أننا بشكل عام، نعمل حساباً أكبر للخسارة من المكاسب..

ولذلك نقدم في صناديق الاستثمار الحديثة استبياناً قصيراً، يكشف لنا مدى شهية أو قبول المستثمر للمخاطر، حتى يتم تصنيفه في المحفظة التي تناسبه (عالية المخاطر، أو متوسطة أو منخفضة).

كل قرار يتخذه الإنسان بشكل أو بآخر، محفوف بالمخاطر. دورنا كبشر، هو دراسة كل خطوة نقدم عليها، فكلما زادت المعلومات المجمعة دقيقة، وكان سقف توقعاتنا معقولاً، تكون النتائج غالباً منسجمة مع توقعاتنا الذهنية، حين نخطط بعقلانية.

مشكلة من يبالغ في رفع سقف توقعاتهم، فيتوقعون مثلاً أرباحاً خيالية، أو يصرون على تحقيق مكاسب لن تحدث إلا في خيالهم، تظل قدراتهم معطلة.

وكذلك أموالهم التي لن تنمو، وسوف تتآكل لا محالة مع الارتفاعات الحتمية للتضخم في السلع والخدمات. هذه الحياة مليئة بالمخاطر، ومن دون قبول شيء من تلك المخاطر المدروسة، يصعب أن ينال المرء مبتغاه. وقد لخص الشاعر أبو القاسم الشابي هذه الفكرة ببيت شهير:

ومن يتهيب صعود الجبلِ يعش أبدَ الدهرِ بين الحُفَرِ.