ما الذي يتبقى من الحقيقة حين يصبح كل شيء قابلاً للتأويل؟ في زمن تتداخل فيه مشاهد الحرب مع عدسات السرد، لم تعد الحقيقة كما كانت، إذ لم تعد وصفاً مباشراً للواقع، وتحولت إلى منتج معرفي تعاد صياغته وفق منطق الهيمنة، حتى باتت الحقيقة اليوم معرضة لإعادة الترتيب والتقويض.. وحتى المحو!

وهذا ما يتجلى بشكل واضح في حرب غزة، إذ لم يعد السلاح وحده أداة للإبادة، بل الصورة التي تصوغ مشهداً بديلاً، فحين استهدفت مراكز مدنية مأهولة، وراح ضحيتها المئات في لحظات، لم تركز بعض وسائل الإعلام على المجزرة، بل على جدل من أطلق الصاروخ أو ما الهدف الحقيقي للهجوم، كانت الجثث لا تزال ساخنة، والدماء تملأ المكان، بينما بدأت ماكينة التشكيك بالعمل فوراً.. اتهام مباشر، ثم نفي لاحق، ثم تقارير محايدة، فصور ملتقطة من الأقمار الاصطناعية، ثم صمت ثقيل.

لم يكن الهدف توضيح ما جرى، بل تفكيك اليقين بشكل ممنهج، ففي بيئة معرفية مشبعة بالتأويلات، يكفي أن يزرع الشك حتى تتشوش الحقائق، ويعاد تصنيف الضحية على أنها طرف في رواية ملتبسة، وبهذه الطريقة تمحى آثار الجريمة دون أن تنفى بالكامل.

هذا النمط لا ينفي الحقيقة بشكل صريح، بل يغرقها في دوامة التأويل، فيفرغها من أثرها الأخلاقي، إنه أسلوب متقدم في إدارة الوعي الذي لا يمارس عبر القمع أو الرقابة، بل عبر الإغراق في المعاني المحتملة.

وبهذا تصبح الحرب نزاعاً على السرد أكثر مما هي على الأرض، وتدور الأسئلة في دائرة مفرغة.. من يملك الحق في صياغة الأحداث؟ من يحدد ما يروى وما ينسى؟ ومن يفرض اللغة التي يفكر بها في أصل المأساة؟

وفي هذا السياق، لا يختبئ التشويه خلف أدوات تقنية معقدة، بل يعلن بوضوح من منابر السلطة نفسها، ففي التصريح الأخير لنتانياهو الذي أكد فيه أنه لا توجد مجاعة في غزة، وما يقال مجرد تهويل إعلامي، تحدث بكل ثقة أمام ضمير العالم أجمع، وأنكر ما يراه الملايين على الشاشات.

مؤكداً منهجية كيان لا يعرف ما هي الإنسانية ولا الضمير، وهو بذلك لم يكن يقدم دفاعاً سياسياً، بل كان يمارس إعادة تعريف للواقع، فالمجازر تقدم كحوادث عرضية، ويبرر الحصار كأداة ضغط مشروعة، بينما تنكر المجاعات وكأنها شائعات!

بهذا الخطاب، يعاد تشكيل المعاناة في وعي المتلقي العالمي بوصفها ادعاءً لا مأساة، وهي ليست محاولة لإقناع الجميع، بل لتفكيك الحد الأدنى من التعاطف، وتشويش الشعور الأخلاقي تجاه شعب يعاني ويلات الحرب والجوع والعزلة.

ولم تكن هذه الممارسات حكراً على طرف دون آخر، لكنها حين تأتي من جهة تملك الصوت الأعلى والسلطة الإعلامية الأوسع، فإنها تتحول من مجرد تزييف إلى إعادة برمجة للوعي الجمعي، فالجمهور لا يصدق الأكاذيب لأنه جاهل، بل لأنه منهك من تدفق الصور، وغارق في بحر من السرديات المتضاربة، وفي ظل هذا الانهاك، تفقد القدرة على التمييز بين الواقع والنموذج المشوش!

الأخطر من هذا كله، أن هذا التشويه لا ينتج وعياً زائفاً فقط، بل يعيد تشكيل حدود التعاطف ذاتها عبر وسائل الإعلام المضاد ومواقع التواصل الاجتماعي والحسابات الوهمية، بحيث يصبح الألم الفلسطيني أقل قابلية للتصديق، وأقل استحقاقاً للغضب أو التضامن، لأن الصور حين تتكرر دون سياق حقيقي، تتحول من صدمة إلى مشهد روتيني، يتعوده المتلقي ثم يتجاهله كأنه جزء من ضجيج العالم العابر.

وفي زمن مكتظ بالخوارزميات وتحريف الصور والحقائق، لا يكون الدفاع عن الحقيقة مجرد موقف شجاع، بل مقاومة معرفية مستمرة، وفي عالم اعتاد الناس فيه على رؤية طرفٍ واحد من القصة، تبقى القدرة على الإصغاء لما يسكت عنه، والرؤية عبر التعتيم المتعمد، آخر ما نملكه من وعي غير مصادر، وآخر شكل من أشكال الإنسانية!