نهاية عولمة وولادة أخرى

عاد شبح نشوب حرب تجارية يخيم من جديد على العلاقات الدولية، وذلك رغم الاتفاق المعلن بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي حول التعريفات الديوانية، حيث وافق الأوروبيون على فرض واشنطن زيادة بـ15% على المنتجات والسلع الأوروبية التي تدخل الولايات المتحدة.

واعتبرت عديد الدول الأوروبية، أن هذا الاتفاق غير عادل ولا يمكن له الدوام، رغم أنه حقق بعض الاستقرار النسبي في التعامل وشأنه في ذلك شأن اتفاق سبق بين الصين والولايات المتحدة.

ويجمع الملاحظون على أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، استطاع فرض الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي استناداً إلى منطق القوة وأن الولايات المتحدة خرجت المستفيد الأبرز وربما الوحيد من هذا الاتفاق.

ويأتي هذا الاتفاق ليعلن عن مزيد من إضعاف منظمة التجارة الدولية التي كانت تمثل الإطار الأمثل للتفاوض وحسم النزاعات عند الاقتضاء.

وتعد منظمة التجارة الدولية أحد أطر العمل والتعاون متعدد الأطراف التي انبثقت إثر الحرب العالمية الثانية، وهي الأداة الاقتصادية للتعاون والعمل متعدد الأطراف، فيما يصنف صندوق النقد الدولي، وكذلك البنك العالمي، من الأدوات المالية لهذا العمل المشترك متعدد الأطراف.

وتجسد منظمة الأمم المتحدة وهياكلها المختصة الأداة الأساسية لهذا النظام، والتي من مهامها فرض الأمن والسلم الدولييْن وكذلك المساعدة على تحقيق تنمية متوازنة ومستدامة لكل الدول.

وتأتي هذه التطورات لتؤشر إلى أن صرح نظام العمل متعدد الأطراف الذي عقب الحرب الكونية الثانية بدأ يتهاوى وبدأت بالتدريج السيادات الوطنية والقومية تكتسح مجالات العمل المشترك ومتعدد الأطراف.

وعاد منطق القوة وموازين القوى للتحكم بالمطلق في العلاقات الدولية، من خلال عودة الحمائية الاقتصادية ومن خلال اعتبار موازين القوّة أساس التحكم في العلاقات الدولية الاقتصادية وغيرها.

وتجلت هذه التطورات بالخصوص في مواقف وقرارات عديد الدول ومنها وأساساً الولايات المتحدة التي ضاعفت من تلويحها بالانسحاب من منظمتي التجارة العالمية واليونسكو، وأغرقت العالم في بحر صراع التعريفات الجمركية.

وتعمقت الأزمة أكثر مع القانون الجديد الذي تبناه الكونغرس الأمريكي مؤخراً والذي يبيح لإدارة ترامب إلغاء أو تجميد أو تعليق تمويل منظمة الأمم المتحدة والهياكل التابعة لها وكذلك مهام فرض السلم في العالم، ما يدفع إلى القول إن النظام العالمي المنبثق من الحرب الكونية الثانية بلغ مرحلة الحرج وقارب على الانتهاء.

ويمثل إضعاف العمل بالقواعد المشتركة للتجارة الدولية والتفاوض وفق منطق القوة والمصالح السيادية للدول نهاية فعلية لمنظمة التجارة العالمية الإطار الموحد للعمل المشترك في المستوى الاقتصادي.

كما أن التوظيفات السياسية المشطة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، راكمت مزيداً من التململ لدى دول الجنوب الشامل وبدأت موجات رفض سياسات هذين المؤسستين التي رأت فيها شعوب وقادة هذه الدول ضرباً لمصالحها القومية والوطنية، فانتفضت ضدها، وبحثت عن حلول لأزماتها بتغليب التعاون الثنائي خارج هذه الأطر المشتركة.

ولا يبدو أن مصير الأمم المتحدة والهياكل التابعة لها أفضل، إذْ إنّ الفشل في تحقيق السلم والأمن في مناطق عديدة من العالم وبخاصة قضية الشعب الفلسطيني، واعتماد سياسة تعدد المكاييل، وتوظيف القانون الدولي حسب مقاسات الدول والقضايا، والعقم المزمن للقضاء على العديد من الأسباب ومنها أن آليات تنفيذ قرارات محكمتي العدل والجنايات الدوليتين لا تزال بين أيدي الدول وتخضع فقط لموازين القوة.

إن البشرية تتجه بلا شكّ إلى عالم متعدد الأقطاب شعاره رفض القديم والمطالبة بجديد يحاول كل قطب نحته على مقاس مصالحه وهي نقطة الالتقاء الوحيدة بين الولايات المتحدة التي تتنصل من كل الالتزامات والقوانين وتسعى إلى فرض مصالحها بالقوّة بكل أشكالها.

وأوروبا التي تتأرجح بين تمسكها بقيم الليبرالية النبيلة والدفاع عن مصالحها الاقتصادية والحيوية ضد طغيان الولايات المتحدة وتعاظم الدور الصيني، وجنوب شامل يصر على بناء أنماطه التنموية بكل في استقلالية تامة عن القطبين.

ولعل كل هذه المؤشرات تدلل على نهاية عولمة ما بعد الحرب الكونية الثانية وتعلن بداية أخرى، وإن العالم لذلك مقدم على تحولات دراماتيكية قد تغير في العمق طبيعة التعاون الدولي في اتجاه يحافظ على شكل من أشكال التعاون والعمل متعدد الأطراف أو هو قانون الغاب والبقاء فيه للأقوى بقطع النظر عن مدى صوابه وصلاحه.