إسكندر بك حنا.. مصري استعانت به عُمان لتنظيم جماركها

شهدت عُمان في عهد السلطان تيمور بن فيصل بن تركي البوسعيدي خلال الفترة من 1913 إلى 1932 الكثير من الأحداث.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى شرع السلطان تيمور في عملية تنمية وتطوير كان قد بدأها والده بإدخال الخدمات البرقية عام 1901 ووضع حجر الأساس لمستشفى خيري بمسقط عام 1909 وتدشين مصنع للثلج عام 1911. غير أنه منح التنظيم الإداري للدولة وتحديثه اهتماماً خاصاً، فكان أن ظهر في عهده، ثم في عهد خلفه السلطان سعيد بن تيمور (1932 ــ 1970) العديد من المؤسسات والأجهزة والإدارات الحديثة. حيث تشكل في عام 1920 أول مجلس للوزراء في تاريخ عُمان برئاسة نادر بن فيصل، قبل أن تنتقل الرئاسة إلى سعيد بن تيمور، وصدر أول قانون للخدمة العسكرية متضمناً نظاماً دقيقاً للرواتب والعلاوات والمكافآت والعقوبات، علاوة على تأسيس إدارة خاصة تتولى الأعمال البلدية، وتأسيس المدرسة السلطانية الأولى في عام 1928.

غير أن ما يهمنا هنا هو ما قام به السلطان تيمور على صعيد تنظيم الإدارة المالية وقطاع الاقتصاد. يقول الباحث العُماني صالح بن سليمان الفارسي في كتابه «ملامح من تطور النظام الإداري في سلطنة عُمان» ما مفاده أن هذا الأمر كان الشغل الشاغل للسلطان، وأنه بدأ بتطوير وتحديث الجهاز الجمركي سعياً وراء تنمية الإيرادات الجمركية، على اعتبار أنها المصدر الوحيد لخزينة الدولة في تلك الحقبة. هذا ناهيك عن أن الجمارك في سلطنة عُمان لها تاريخ عريق من الريادة في الخليج العربي، بل هي من أوائل مظاهر التنظيم الإداري في المنطقة، بدليل أن مبنى الجمارك في مسقط يعود تاريخ بنائه إلى عام 1624م، طبقاً لدراسة أعدها الباحث العُماني الدكتور محمد بن حمد العريمي، ونشرها في صحيفة الأثير العُمانية (2023/9/16). علاوة على دائرة الجمارك تم تأسيس دائرة للأوقاف والتركات وأخرى للداخلية معنية بشؤون الولايات والقبائل وأعمال الولاة والتفتيش عليهم والإشراف على شؤون الهجرة والجنسية والجوازات والشرطة والسجون، وثالثة مختصة بالتعليم، ورابعة للشؤون الخارجية ومسائل الدفاع، وخامسة للمال معنية بجباية الزكوات وفحص موارد البلاد وصرفها، وغيرها من الإدارات التي أطلق على كل واحدة منها مسمى «نظارة».

وقتها، وبسبب نقص الكفاءات المحلية، كان لا مناص من استعانة الدولة بالكفاءات العربية في بعض المجالات من أجل تنفيذ وإنجاح التطوير الإداري، وهذا ما نفذه ولي العهد سعيد بموافقة والده السلطان، وخصوصاً أنه كان لسعيد بن تيمور رؤية أشار إليها ويندل فيليبس في كتابه «تاريخ عُمان»، ومفادها «إذا لم يكن لدي اكتفاء ذاتي في سلعةٍ ما، فإنني أسافر لأستوردها من الخارج.. ونفس الشيء بالنسبة للتخصصات .. التي لا تتوافر في عُمان فإنني أذهب إلى مصدرها لأحصل عليها». وفي السياق نفسه يشير الدكتور العريمي في بحثه المشار إليه آنفاً إلى ما كتبه زميله الباحث العُماني الدكتور ناصر بن سعيد العتيقي في كتاب الأوضاع السياسية العُمانية في عهد السلطان سعيد بن تيمور، من أن الأخير كان يعد تعيين مستشارين عرب من القرارات المهمة التي أزعجت بريطانيا، وخصوصاً بعد أن ثبت فشل المستشارين البريطانيين واحداً تلو آخر في فترة حكم والده السلطان تيمور، وكان المستشار المالي أولين Awolin هو آخر المستشارين الإنجليز، إذ لم يطلب السلطان أي مستشار مالي بعده، وأصبح يدير الأمور الاقتصادية المهمة بنفسه.

وهكذا نرى أن السلطان تيمور وابنه سعيد استعانا ببعض الشخصيات العربية في مختلف المجالات، وقد ساعدهما على اختيار الأفضل والأكفأ ثقافتهما المتنوعة واطلاعهما الواسع. ففي المجال الاقتصادي وقع اختيارهما على خمسة موظفين مصريين من ذوي الخبرة في إدارة الجمارك من الذين تم استقدامهم في عشرينيات القرن الماضي وهم: عبدالسلام حسين غنام، وأحمد زكي عبده، وعبدالله أفندي الذي تولى إدارة جمرك مسقط، وأحمد حمدي أفندي الذي تولى إدارة جمرك مطرح، وأخيراً إسكندر حنا أفندي (إسكندر بك حنا لاحقاً) الذي سيكون موضوعاً لهذه المادة لأسباب منها منصبه كمدير عام للجمارك السلطانية، وقيامه إبان عمله الذي امتد إلى 40 عاماً بجهود كبيرة في تطوير وتحديث والارتقاء بمنظومة العمل الجمركي.ولد إسكندر حنا أفندي في مصر إبان العهد الملكي، وفي ظله تلقى تعليمه العام والجامعي، ثم عمل في تطوير الدوائر الحكومية واكتسب خبرات من عمله في الجمارك الملكية المصرية بصفة خاصة، فشاع اسمه على المستوى العربي كخبير متمكن وشخصية مطلعة، بدليل أن حكومة العراق الملكية استعانت به للعمل في وزارة داخليتها في بواكير تأسيس الدولة العراقية. وفي هذا السياق نشرت جريدة الفيحاء العراقية مقالاً في عشرينيات القرن الماضي بقلم صاحبها المؤرخ العراقي الكبير عبدالرزاق الحسني وصف فيه إسكندر حنا أفندي بأنه من خيرة الموظفين المصريين الذين قدموا إلى هذه البلاد (يقصد العراق) وتولوا الوظائف بها. ومن هنا كان قرار السلطان تيمور باستقدامه من العراق إلى عُمان، فوصل إلى مسقط بحراً في عام 1921، وتم تعيينه في السابع عشر من نوفمبر 1923، بموجب قرار من مجلس الوزراء، مديراً للفرض (الموانئ) وما يتبعها، مكلفاً بتأسيس الجمارك السلطانية على أفضل مستوى.

تحدث الدكتور محمد العريمي في بحثه المنشور في صحيفة أثير (مصدر سابق) عن ظروف اختيار وانتقال إسكندر حنا أفندي من العراق إلى عُمان فأخبرنا أنه بتاريخ 12 فبراير 1921 أرسل القنصل البريطاني في مسقط خطاباً إلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر تريفور يفيد فيه بأن حكومة زنجبار أفادته بأسماء أربعة موظفين، ثلاثة منهم مصريون وسوداني واحد، (شفيق الدهشوري ومحمود محمد مكي وبشارة الطرابلسي وجورج الطرابلسي وإسكندر حنا) يخدمون في الوقت الحالي بالعراق، وهم مؤهلون للعمل في جمارك مسقط، ولديهم الرغبة في الانتقال إليها للعمل، طالباً منه مخاطبة الجهات المعنيّة بالعراق من أجل الحصول على خدماتهم في أقرب وقتٍ ممكن، مقابل 300 – 400 روبية شهرياً كرواتب، على أن يتم تحديدها بعد الاطلاع على مؤهلاتهم وخدماتهم، وستتحمل حكومة مسقط تكاليف سفرهم. ويضيف العريمي إن المفوض السامي البريطاني في العراق رد بخطاب برقي مؤرخ في 9 فبراير 1921، أوضح فيه أن الدهشوري ترك العراق وعاد إلى مصر، وأن السودانيمحمود مكي مرتبط بأعمال تحول من دون قبوله العرض، وأن بشارة الطرابلسي رافض للعرض، وأن أخاه جورج مستعد لقبول عرض السفر إلى مسقط لكن بشروط، وأن إسكندر حنا لم يرد على العرض حتى تاريخه.

بعد ذلك، ونتيجة لمراسلات أخرى تمت بين المفوض السامي والمقيم السياسي، كان آخرها بتاريخ 25 فبراير 1921، تبين من فحواها أن إسكندر حنا قد وافق على العمل في مسقط، ومستعد للسفر إليها فوراً. وعليه بعث مجلس الوزراء العُماني خطاباً مؤرخاً في 17 نوفمبر 1923 إلى إسكندر أفندي حنا يفيد باختياره مديراً عاماً لفرض الجمارك، وذلك لما توقعوه من الهمم والاجتهاد والنشاط في الأعمال، والقيام الحسَن في إجراء لوازم الإدارة العمومية للجمارك السلطانية بالمصالح الوافرة، بحسب نص الخطاب.

شرع الرجل فور وصوله إلى مسقط في العمل الذي استقدم من أجله، حيث استعان بما راكمه من خبرات في تعديل قوانين وتشريعات الجمارك العُمانية السارية منذ عام 1920، وتحديثها وتطويرها خدمة للمجتمع التجاري وكي تسير أعمال الموانئ العُمانية الزاخرة آنذاك بالحركة بسهولة ويسر، ولا سيما في الفترة ما بين عام 1927 وعام 1938، وهو ما استحسنه وأثنى عليه السلطان تيمور بن فيصل ومن بعده خليفته السلطان سعيد بن تيمور. ومكافأة لإسكندر حنا أفندي على جهوده النبيلة في زيادة الإيرادات الجمركية زيادة مشهودة تم تعيينه مديراً عاماً للجمارك السلطانية، وتجدد تعيينه المرة تلو الأخرى حتى عام 1960، وتقديراً مضاعفاً لجهوده في مجالي إدارة الجمارك والإصلاح المالي، منحه السلطان تيمور بتاريخ 13 مارس عام 1926 نيشان الشرف السعيدي، وهو النيشان الذي أذنت له الخارجية المصرية بحمله في التاسع من أغسطس 1931. أما بلده مصر فقد كرمته لاحقاً بمنحه درجة البكوية من قبل الملك فاروق فصار اسمه إسكندر بك حنا، ويقال إن ذلك حدث بعد أن سمع الملك ثناء السلطان سعيد بن تيمور على الرجل إبان زيارة الأخير لمصر سنة 1944.

كان إسكندر حنا دائم التنقل بين الموانئ العُمانية للإشراف على سير العمل في جماركها. وتحدثت إحدى الوثائق البريطانية المنشورة في الأرشيف الرقمي للخليج العربي تحت عنوان (الوضع السياسي الداخلي في مسقط وعُمان عام 1956) عن صحته وأمراضه فأشارت إلى أنه أصيب في يونيو 1956 بنوبة قلبية خلال وجوده في ميناء غوادر، وأنه عاد من غوادر إلى مسقط، لكنه غادر الأخيرة إلى مصر بعد وقت قصير للعلاج بناءً على مشورة طبية، ثم عاد إلى عُمان في 18 أكتوبر 1956 لمباشرة عمله كالمعتاد.

وفي نهاية عام 1959م أصيب صاحبنا بالفلج. كتب صديقه الفلسطيني إسماعيل بن خليل الرصاصي الذي كان وقتها والياً على مطرح ومن قبل ناظراً للمعارف بحكومة مسقط وعُمان في مذكراته الشخصية المطبوعة في كتاب بعنوان الوالي إسماعيل (إصدار 2020): في 25 يناير 1960 وجدت صديقنا إسكندر حنّا مدير الجمارك مفلوجاً نصفه الأيسر، وتكدرتُ لمصابه كثيراً، وتم تسفيره إلى أهله على ظهر باخرةِ شحنٍ فيها موضع للمرضى، وصعدتُ معه، وهناك رفعوه في ونش إلى ظهر الباخرة. كان الله في عونه وعون أهله.وقد علم السلطان سعيد بن تيمور بما حدث لمدير جماركه الوفي فبعث له بخطاب مؤرخ في 31 ديسمبر 1959، يأسف فيه لما ألم به ويتمنى له الشفاء العاجل والصحة التامة. هذا علماً بأنه كانت هناك مراسلات كثيرة بين السلطان والمترجم له، يطلع فيها الثاني الأول على آخر المستجدات في مجال عمله، ويتلقى منه التوجيهات. من هذه الرسائل واحدة بعثها إسكندر حنا إلى السلطان في ظفار فرد الأخير عليها قائلاً: لقد وصل إلينا كتابك المؤرخ في 8 جمادي الآخر 1373 للهجرة (1954/2/11)، وسرنا أن أشغال الجمارك جارية على ما يرام، ولا شك في أن هذا باجتهادك وما زلت مشكوراً. نرجو أن تكون في أحسن صحة وعافية.

إحدى الوثائق البريطانية العائدة إلى عام 1960م تطرقت أيضاً إلى واقعة مرض الرجل واضطراره للسفر فأشارت إلى أنه وضع في سفينة مغادرة إلى ميناء السويس بتاريخ 29 يناير 1960 وأنه لن يعود مجدداً إلى مسقط.