أسابيع قليلة مرت على عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وإذا به يصدر سلسلة من القرارات والتصريحات أقل ما توصف به أنها نارية ومتسرعة.
ولم يستثن ترامب في نيرانه ملفاً أو قضية داخل أمريكا أو خارجها، إلا وصوب عليها، وبما أن حرب غزة والقضية الفلسطينية هي حديث الساعة لخمسة عشر شهراً متتالية فإن نصيبها من أحاديث وأفكار ترامب كان كبيراً، بل إنها احتلت الجزء الأكبر من اهتمامه ومواقفه، إلى جانب حرب أوكرانيا ومناوشاته مع جيرانه في كندا والمكسيك وبنما.
ورغم أن ترامب تراجع قليلاً عما طرحه بشأن تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن تحديداً، وحاول استدراك الموقف، واحتواء الغضب الشعبي والرسمي في الدولتين من تلك الفكرة غير المقبولة، إلا أن شظايا أفكاره لم تتوقف، وشجعت إسرائيل على التقاط الخيط، وتوسيع دائرة اقتراحات وأفكار التهجير.
فقد اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إقامة دولة فلسطينية في أراضي المملكة العربية السعودية، ليشارك بذلك ترامب في طرح خيارات وبدائل غير منطقية، فضلاً عن كونها غير قانونية ولا أخلاقية، كما لو كان العالم مشاعاً وملكية مجانية لواشنطن وتل أبيب تتصرفان فيها، وتقسمانها بإرادتهما.
الخطير في تفكير ترامب ونتنياهو أن استخدام مبدأ «تبادل الأراضي» بقدر كبير من الاستسهال، إنما يعني مباشرة إهدار أحد أهم الأسس الراسخة في القانون الدولي المعاصر والمبادئ التي يستند إليها المجتمع الدولي في إدارة شؤونه بقدر من التعاون والتنسيق، ألا وهو احترام سيادة الدول وإرادة الشعوب وسلامة حدودها وأراضيها.
وهي مسائل ليست محل جدل وقواعد متفق عليها، ومستقرة في المجتمع الدولي منذ قرون، بل إنها أحد المبادئ الأساسية، التي يستند إليها النظام العالمي الراهن في الحفاظ على استقراره، وإلا لاستمرت النزاعات الحدودية تجتاح العالم ولتغيرت ملامح ومساحات دول العالم كل بضعة أعوام.
وحين يطرح ترامب أو نتنياهو هذه الأفكار الشاذة فهما بذلك لا يحلان صراعاً ولا يوجدان تسوية وسلاماً واستقراراً، بل على العكس؛ فالتفكير بمنطق الإبعاد والنقل والترحيل ليس سوى تصدير للمشكلة وليس حلاً لها.
ومجرد إثارة هذه الأفكار وعرضها يعني توسيع نطاق القضية بجذب وإشراك أطراف أخرى فيها، حتى وإن كانت هي من الأصل منغمسة في القضية، ومعنية بها سواء كانت السعودية أو أي دولة عربية.
وبالطبع فإن الانهماك العربي العام في القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المحورية في المنطقة ومصدر عدم الاستقرار الإقليمي منذ عقود، لا يعني ولا يبرر بالمرة التفكير في حلول أو أنصاف حلول على حساب أي طرف عربي، كما لو كانت الدول العربية هي سبب المشكلة، وتتحمل هي مسؤولية حلها أو بعبارة أصح تسويقها.
لذلك كان طبيعي جداً أن تصدر ردود أفعال سريعة وقاطعة على اللامنطقي واللاعقلانية، التي أطلقها نتنياهو ومن قبله ترامب، سواء بشأن مبدأ التهجير أو بخصوص التجاوز بحق السعودية على سيادتها.
ولعلنا نجد في سرعة دولة الإمارات ودول عربية شقيقة أخرى إلى تأكيد مساندتها ووقوفها إلى جانب الرياض في مواجهة هذه «الممحاكات» المرفوضة، رسالة واضحة وحادة بأن موقف الدول العربية واحد، وثابت، ولا يتجزأ.
ليس فقط بشأن القضية الفلسطينية، لكن أيضاً وقبل ذلك بشأن أي مساس أو مجرد تفكير في المساس بأمن أو استقرار أي شعب أو سلامة أراضي أي دولة عربية. وإن كانت مصر والأردن، أمس، والسعودية اليوم، فغداً وبعد غد دولة ثالثة ورابعة.
مما لا شك فيه أن هذه الرسالة من شأنها تنبيه وتحذير واشنطن وتل أبيب، من أن الرفض العربي الذي ظهر بوضوح وبأشكال مختلفة لتهجير فلسطيني غزة، ليس مقصوداً به مصر أو الأردن أو السعودية فقط، فهو رفض مبدئي ونهائي للمبدأ والفكرة، ومعناه أن على ترامب ونتنياهو الكف عن التفكير بمنطق التجارة، التي لا تميز بين الأوطان والعقارات، والسعي وراء صفقات مستحيلة، تقايض فيها الأرض بالحياة أو الأموال بالشعوب.