أكاذيب عابرة للأوقات والقارات!

أدخلت السيدة اليابانية بطاقة الصعود إلى القطار في المكان المخصص ثم نظرت إلى ابنها الصغير، الذي كان يرافقها فوجدته بجانبها. أدركت أمره فسألته قائلة: هل أدخلت بطاقتك؟ قال: لا. نهرته، وقالت له: عد وأدخل البطاقة.

طبعاً، الدرس واضح أنها علمت ابنها ألا يعتاد التحايل حتى لا يصبح فاسداً حين يكبر. وينشأ جيل من الفاسدين ينخرون عظم الدولة، ويتسببون في انهيارها الأخلاقي والاقتصادي، وربما انهيارها بالكامل، أما الدرس الذي كانت علمته إياه وهو الصدق فقد تعلمه، فهو لم يكذب على أمه، واعترف عفوياً بأنه لم يدخل البطاقة.

ثمة فرق بين التحايل والكذب، الأول يحتاج إلى الذكاء السلبي، أي لصالح الشر وليس لصالح الخير، فمعظم اللصوص والمجرمون أذكياء بدرجة ما، حيث يخططون بحنكة وينفذون بخبرة، وإن كانت الجهات الأمنية أكثر منهم ذكاء فتتابع بدقة وتوقعهم في قبضة العدالة، وكما يقال «حبل الكذب قصير مهما طال»، وبالنسبة للقتلة فإنه يلتف حول أعناقهم ليدفعوا حياتهم عقاباً لهم على إزهاق حياة إنسان بريء.

وكما شأن كل شيء يتطور مع الزمن فإن اللصوص طوروا من أساليبهم في السرقة، وها نحن نرى كيف يستغل الهاكرز الشبكة العنكبوتية لسرقة حسابات بنكية بطرق غاية في الذكاء.

بل ومن خلال الشبكة ذاتها يمارسون تجارة الرقيق الأبيض باستغلال الأطفال لأهداف غير أخلاقية، بهدف المال طبعاً، كما ينشئون من خلال الشبكة العنكبوتية شبكات إجرامية متعددة الأطراف والأهداف عابرة للدول والقارات، ما يشكل على البشرية خطراً يفوق خطر الصواريخ العابرة للقارات.

في السياسة الأمر مختلف، فثمة من يقول إنها فن الكذب، ومن يقول إنها فن الممكن. المفكر الإيطالي، نيكولو مكيافيلي، أرسى في كتابه «الأمير» في عصر النهضة الأوروبية أواخر القرن الخامس عشر تعريفاً جديداً للسياسة واعتبر هدفها تحقيق المصلحة بغض النظر عن الطريقة، التي تتحقق بها تلك المصلحة أي «الغاية تبرر الوسيلة» مهما كانت تلك الوسيلة.

وقال إن السياسة التي تقوم على المثل العليا الأخلاقية أي على ما يجب أن يكون هي ضرب من الخيال، فرجل السياسة يجب أن يتعامل مع الواقع كما هو يسعى للتكيف مع تبعاته بدون الحاجة إلى تنظيرات العقل، بل إلى ممارسة تحتكم إلى منطق الواقع وتقلباته، وألا يبني أحكامه على مبدأ الفضيلة والأخلاق، بل على معرفته بفساد الطبيعة البشرية وتناقضاتها الداخلية لأنها، حسب رأيه طبيعة ميالة إلى المكر والخديعة والخوف والكذب.

ربما بنى جوزيف غوبلز، وزير إعلام هتلر، فكره على ما جاء به مكيافيلي حين قال «اكذب اكذب حتى يصدقك الناس ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك»، لكن انتهى حبل كذب غوبلز بالالتفاف حول عنقه، وبطلقة على رأس هتلر أطلقها هو نفسه ومات.

من أقوال الرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لينكولن المشهورة «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. قبله قال الفيلسوف للإغريقي أرسطو «الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب». أما الروائي الفرنسي فيكتور هيجو فقال «يكره الناس من يضطرونهم للكذب عليهم».

منذ بداية حرب غزة يمارس بنيامين نتانياهو الكذب والمراوغة، وكلما لاح أفق إنهاء الحرب المدمرة يخرج بكذبة تطمس ذاك الأفق. وكلما قال له الجيش «أنهينا المهمة في غزة ولم يعد لدينا أهداف» كذب بحكاية محور فيلادلفيا ثم نتساريم ثم رفح وأخيراً وليس أخيراً لبنان بدعوى إعادة سكان الشمال إلى مستوطناتهم.

الإسرائيليون ضاقوا ذرعاً بكذبات نتانياهو، ورفعوا لافتات تحمل صوره وعليها كلمة «كذاب»، وأدرك أغلبهم أنه لا يدافع عن إسرائيل، بل من أجل مصلحته وهروباً من السجن الذي ينتظره عندما تنتهي الحرب، ويدركون أكثر أنه يقود دولتهم إلى نهاية.. الكذبة!