الحرب الاقتصادية والخسران المضمون

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الاثنين، على هامش قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أن الدول الأوروبية جاهزة للرد في حال نفذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية إضافية على السلع الأوروبية.

وكان ترامب أعلن أن أوروبا «أخذت كل شيء من عند الولايات المتحدة ولم تقدم مقابل ذلك أي شيء»، وخصوصاً في مستوى التبادل التجاري.

ويذكر أن ميزان التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وحليفها التقليدي مختل لصالح القارة العجوز أوروبا.

وتأتي هذه التطورات في سياق إجراءات أخرى بترفيع الرسوم الجمركية اتخذها ترامب مع التنفيذ الفوري ضد كندا والمكسيك والصين، وهي إجراءات رفضتها الأطراف المعنية، ولقيت استهجاناً وإدانة من الاتحاد الأوروبي.

وندد الاتحاد بفرض واشنطن رسوماً جمركية على وارداتها من كندا والمكسيك والصين، ونبهت المفوضية الأوروبية بأن الرسوم الجمركية «تحدث اضطرابات اقتصادية غير ضرورية وتزيد من التضخم، وهي ضارة بجميع الأطراف».

مشدداً على «أن الرد الأوروبي سيكون حازماً» في حال مُضيّ الرئيس الأمريكي قدماً في تنفيذ تهديداته، لكن الاتحاد الأوروبي ذكر في المقابل أنه «يأمل في التفاوض لتجنب أي نزاع تجاري مع الولايات المتحدة».

ويمثل حجم التبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي 30 في المئة من التجارة العالمية، وهو ما يجعل من أي احتمال لنشوب حرب تجارية بين الطرفين مقدمة لأزمات اقتصادية مؤكدة قد لا تستثني أي طرف، ما يدعو إلى الاعتقاد بأن تهديدات ترامب ضد الأوروبيين هي ورقة ضغط لا غير من أجل حملهم على تحقيق بعض التوازن في المبادلات التجارية بين الطرفين، ومن جهة ثانية رفع مستوى صادرات السيارات الأمريكية إلى أوروبا وكذلك المنتج الصناعي الحربي.

يذكر أنها ليست المرة الأولى التي يسعى فيها ترامب لفرض رسوم جمركية، إذ قام بذلك في ولايته الرئاسية الأولى، حيث فرض سنة 2018 رسوماً جمركية على واردات الصلب والألمنيوم الأوروبية، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى الرد بالمثل وأخضع العديد من السلع الواردة من الولايات المتحدة إلى رسوم جمركية إضافية.

وتكشف النزاعات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أنه، رغم التداخل الكبير في اقتصاديات الطرفين، إلا أنه لا بديل عن الاعتراف بالاختلاف الواضح بين النماذج الاقتصادية والمجتمعية، وحتى القيمية بين القارة «العجوز» والعالم «الجديد».

وبدا أن المجتمع الأمريكي فك الارتباط نهائياً مع أصوله الأوروبية، إن كان ذلك على مستوى القواعد الأخلاقية التي تحكم هذا المجتمع الآن، أو في علاقة بالقيم العليا عموماً، وبالأخص المسألة الديمقراطية، إذ ما انفك يتضح أن المحرك الأساسي وربما الوحيد في السلوك والسياسة الأمريكيتين، وخصوصاً مع ترامب، هو المصلحة ولا شيء غير المصلحة.

وفي المقابل أصبح السلوك والسياسة الأوروبيان يلامسان «السذاجة» لجهة إصرار هذه الدول الأوروبية على الاعتقاد بأن الديمقراطية هي عماد العالم الغربي، وهي المهمة الأساسية التي تجمع مختلف دوله ومكوناته، وهي لذلك تعول على بديهية تقادمت وأصبحت من الماضي، فيما يبدو ويتأكد، وهي أن الحروب لا تنشب بين الدول الديمقراطية.

وإذ تملك الولايات المتحدة ناصية قرارها عسكرياً وتسعى إلى توظيف ذلك الضغط على الجميع من أجل تحقيق المنافع الاقتصادية بما يحقق توازن نموذجها الاقتصادي، فإن الدول الأوروبية لا تزال في حاجة إلى الحماية العسكرية الأمريكية، وهو ما تؤمّنه بنسبة كبيرة عن طريق حلف الناتو ذات الكلفة العالية على المواطن الأمريكي، وهو الأمر الذي يسعى دونالد ترامب إلى مراجعته من خلال حمل الدول الأوروبية على الاستثمار أكثر في المجال الحربي.

وتؤمّن الولايات المتحدة الأمريكية 55 في المئة من الواردات الأوروبية في السلاح، وهي نسبة تصل إلى 99 في المئة من واردات الأسلحة الهولندية، مقابل 6.4 و4.6 فقط هي واردات الدول الأوروبية من ألمانيا وفرنسا، فضلاً عن أنه باستثناء بريطانيا وفرنسا فإن مظلة الحماية النووية الأمريكية تشمل باقي الدول الأوروبية.

إن مجمل هذه المعطيات يبرر القول إن البديهيات التقليدية تتساقط، وإن أوروبا قد تكون الحلقة الأضعف في أي نزاع تجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإن الجميع يدخل في بوتقة الخسارة إذا كانت الحرب التجارية أو غيرها شاملة، وإذا كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية بوقع السلاح المدمر فإن حرباً ثالثة لا قدر الله قد تكون تجارية ومقدمة لدمار شامل.