الإدارات تتصارع والعُشب يتكسر

قصة الولايات المتحدة الأمريكية مع اتفاقية المناخ التي وقّعت عليها إدارة أوباما تبدو محيرة للغاية، ولكن الذي يبدو أمامنا منها أن الاتفاقية تحولت إلى ما يشبه اللعبة في أيدي الإدارات الثلاث التي جاءت إلى البيت الأبيض من بعد أوباما.

ترامب ما كاد يدخل مكتبه البيضاوي في فترته الرئاسية الأولى حتى سارع إلى الإعلان عن انسحاب بلاده من الاتفاقية. وقد فعل هذا رغم أن الإدارة السابقة عليه قد احتفت بالتوقيع في حينه كما لم يحدث أن احتفت بتوقيع اتفاقية مماثلة، وكان من بين مظاهر الاحتفاء أن جون كيري، وزير خارجية أوباما، لما ذهب إلى باريس يوقّع على الاتفاقية، أخذ معه حفيدته الطفلة، ثم وضعها أمامه على طاولة التوقيع في مشهد نقلته وكالات الأنباء ولا نزال نذكره.
وكان القصد من وضع الحفيدة على الطاولة أن هذه اتفاقية تخص الأجيال القادمة من البشر في أنحاء الأرض، أكثر مما تخص الأجيال الحالية، وأن هذا وحده مبرر يكفي لأن تكون الاتفاقية محل التزام واحترام من جانب كل الدول الموقّعة عليها، وبالذات الدول الصناعية الكبرى، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة بطبيعة الحال.

وعندما جاءت إدارة الرئيس جو بايدن، فإن العالم قد استبشر خيراً، وكان السبب أنها ألغت قرار الانسحاب وأعادت الولايات المتحدة إلى مكانها بين الدول الموقّعة، وبدا للجميع أن لدى الإدارة الجديدة رغبة في الالتزام بالاتفاقية وبما تفرضه، وكان من بين علامات الرغبة في الالتزام أن بايدن حضر مؤتمر شرم الشيخ للمناخ، وأنه أعلن خلال حضوره عن تبرع بلاده لأفريقيا بمبلغ من المال لمعالجة تداعيات تغيرات المناخ في القارة.

ولكن الحظ لم يشأ لفرحة العالم بالعودة والالتزام أن تطول، لأن ترامب ما كاد يدخل البيت الأبيض للمرة الثانية حتى كان قد كرر ما فعله في المرة الأولى، فأعلن عن انسحاب بلاده للمرة الثانية بغير أن يهتم أو يبالي!

ومما قاله في تبرير قراره، أن الصين التي تلوث مناخ العالم بصناعاتها الضخمة مستمرة فيما تفعله، وأنه لا يستطيع تقييد صناعات بلاده بما تفرضه الاتفاقية، بينما الصينيون في المقابل يطلقون العنان لصناعاتهم في كل اتجاه. هذا ما قاله ترامب، وما قاله ليس بالتأكيد مبرراً للانسحاب أو إعادة الانسحاب، لأن الأوفق أن يعمل العالم على أن تلتزم الصين بموجبات الاتفاقية، لا أن تتحلل الدول من موجباتها، ولا أن تكون الدولة الأكبر في طليعة هذه الدول.

وكانت وكالة الأنباء الفرنسية قد أذاعت أن السلطات التايلاندية أغلقت 250 مدرسة في العاصمة تايلاند بسبب مستويات التلوث الجوي العالية، وأضافت الوكالة أن السلطات حثت ملايين السكان على العمل من منازلهم بسبب التلوث نفسه الذي لم يصل إلى هذا المستوى منذ 2020.

كان ذلك في شهر يناير المنقضي، ومن بعدها بأيام نقلت وكالة أنباء الأناضول عن كاثرين راسل، رئيسة منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» أن الأعاصير والفيضانات تسببت في تعطيل ذهاب 250 مليون طفل إلى مدارسهم خلال 2024، أي بمعدل طفل من بين كل سبعة أطفال حول العالم.

وليس ما أذاعته الوكالة الفرنسية، ولا ما نقلته الوكالة التركية، سوى مجرد مثلين اثنين على ما يصيب العالم من جراء تغيرات المناخ، الناجمة عن تلويث الطقس في أركان الأرض. أما ما تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه الاتفاقية، فلا ينطبق عليه إلا المثل الذي يقول: إن «الأفيال تتصارع بينما العُشب يتكسر».