عهد الاتحاد.. يوم القلوب الكبيرة

لم يكن يوم الثامن عشر من شهر يوليو عام 1971م يوماً عاديّاً في تاريخ هذه البلاد، بل كان يوماً استثنائيّاً بكلّ ما تعنيه الاستثنائية من معنى، ففي هذا اليوم تحقّق الحلم العظيم الذي راود فارساً شديد الشكيمة من فرسان هذه الصحراء المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيب الله ثراه، حلم توحيد هذه البلاد في دولة واحدة تحت علم واحد.

وكان لنيّته الصافية أكبر الأثر في تحقيق هذا الحلم الكبير، إذْ هبّ لمشاركته في تحقيق هذا الحلم فارسٌ من فرسان آل مكتوم المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، فاجتمع السّاعدان وطفقا يفكّران في السبيل الرشيد لتحقيق هذا الحلم الكبير.

ولقد قصّ علينا صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، قصة هذا الحلم الكبير وما اعترضه من عقبات، وما اكتنفه من تحدّيات في سيرته الذاتية المبدعة «قصّتي: 50 قصة في خمسين عاماً»، حيث أفرد لهذا الحدث الحاسم في بناء الدولة عدة قصص افتتحها بقصة الخيمة الشمالية الّتي اجتمع فيها الشيخان الجليلان: زايد وراشد في 18 فبراير عام 1968.

وشهدت اللقاء الحاسم لتحقيق هذا الهدف المنشود، حيث افتتح صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد هذه القصة بقوله: «لكلّ شيء بداية، وسُنّة الحياة أن يكون له نهاية إلا الأحلام العظيمة، لها بداية ولكنّك لا ترى نهايتها، لأنّها تكون أبقى منك إذا أخلصت لها، وتُعمّر عمراً أطول منك إذا أعطيتها كلّك».

ثمّ اندفع صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد بسرد التفاصيل المذهلة لذلك اللقاء الفريد، والذي انتهى بالتصميم على تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة والسعي الحثيث لتحقيق هذا الحلم الكبير، ليختم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه القصة بالوقوف العميق عند المغزى الكبير لهذا الحدث حين قال:

«قامت دولة الإمارات على أيدي قادة كانت لديهم القدرة على إنكار الذات، وحقّقت الدولة المعجزات على أيدي هؤلاء القادة، وسيبقى أحد أهمّ أسرار نجاحنا هذه القيمة التي لا بدّ أن تستمرّ في جميع المسؤولين في هذه الدولة حتى تستمرّ المعجزة: قيمة إنكار الذات لمصلحة البلاد».

إنّ هذه البداية لم تكن مفروشة بالورود بل كانت محفوفة بالصعوبات والتحدّيات، وهو ما خصّص له صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد قصّتين كاملتين هما القصة رقم 26 بعنوان «سباق مع الزمن والمستشارين».

والقصة رقم 27 بعنوان «إعلان الاتحاد»، حيث استوعب التفاصيل الدقيقة والعقبات الكؤود التي اعترضت مسيرة تشكيل الاتحاد من أجل أن تعلم الأجيال اللاحقة كم بذل الآباء المؤسّسون من الوقت والجهد في سبيل توحيد البلاد، وبناء هذه الدولة الزاهرة المجيدة.

اليوم، وفي ظلال الذكرى الـ 54 لإعلان الاتحاد وقيام دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، نشر صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد تغريدة رائعة المحتوى على حسابه في منصة «إكس»، استعاد فيها ذلك الصدى الجميل لهذا الحدث التاريخي المجيد في مسيرة الدولة، حيث أكّد على عمق الالتزام بالقيم النبيلة التي أرساها المؤسّسون الكبار، والتي ستظلّ مصدر إلهام ومنارة إشعاع لقادة هذه الدولة الذين يسيرون على خُطى الآباء المؤسسين بكلّ عزيمة وثقة واقتدار.

«عهد الاتحاد: يومٌ توافق فيه المؤسّسون على وثيقة ودستور الاتحاد، وتوافقت القلوب على فكرة الاتحاد، وتوافقت الطاقات والموارد على بناء أعظم فكرة وحدويّة شهدها عالمنا العربي المعاصر».

بهذه الكلمات المتوهّجة بالأمل والعزيمة والتصميم يستعيد صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد تلك اللحظة التاريخية الفاصلة لنشأة الاتحاد من خلال هذا العهد الذي يتجاوز كونه ظرفاً زمنيّاً محضاً، بل هو يومٌ من صنيع القلوب، فهو عهد القلوب الكبيرة التي اتفقت على تحقيق هذا الحلم البعيد المنال.

وتأسيس هذه الدولة الزاهرة ضمن أرقى أشكال الدولة الحديثة التي تعتمد الدستور الناظم لجميع شؤونها، فهي دولة ذات طابع واضح يلتزم بالقانون، وتتوافق فيه القلوب قبل العقول على فكرة الاتحاد كخيارٍ أوحد لبزوغ نجم هذه الدولة السعيدة، فالتقت القلوب على هذا الهدف الكبير، وانصهرت جميع الطاقات والموارد لتنفيذ هذه الفكرة الوحدويّة التي كانت نادرة ووحيدة في العالم العربي الذي كان يشهد فيه الوطن الواحد مزيداً من التشرذم والانقسام.

«واليوم نتعاهد على استكمال البناء بنفس الروح وبنفس العزم، وبطموحات عالميّة نحو المستقبل»، وإذا كانت انطلاقة الاتحاد قد شهدت هذه الروح القويّة المتفانية حتى استطاعت تحقيق هذا الحلم الكبير، فإنّ صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد يُعيد التأكيد على أنّ استكمال البناء القويّ الراسخ الذي بناه الآباء المؤسسون يجب أن يكون مستلهماً ذلك الصفاء الروحي العجيب.

وتلك العزيمة الشمّاء التي لا تعرف التردّد من أجل أن يظلّ هذا الوطن العزيز شامخاً كريماً كما أراده الرّجال الكبار الذين سهروا الليالي الطِّوال في سبيل تحقيق هذا الحلم الجليل، ومن أجل ذلك لا بدّ من استلهام مواقفهم وأخلاقهم من أجل أن تظل الإمارات العربيّة المتّحدة حاضرة في قلب الحياة، وقادرة على تحقيق طموحاتها المستقبلية من خلال منظور عالمي يُحقّق لها مزيداً من الشهود الحضاري الذي يليق بها ضمن مسيرتها الزاهرة في التقدّم والرفعة والازدهار، في مسيرة كريمة يحدوها قادة مخلصون وشعب متسلّح بالوعي والحبّ والطاقة المبدعة في الإنجاز والبناء.