على مدار شهور حرب غزة الخمسة عشر، ظلت مطالب زعماء نخبة الاستيطان والمستوطنين في إسرائيل، لا سيما المشاركين منهم في الائتلاف الحاكم، سيفاً مرفوعاً في وجه رئيس الوزراء نتانياهو. وقد بدت هذه الحالة وكأنها مستحبة لدى الرجل، كونها وافقت هواه وتلاقت حتى التطابق مع الأهداف التي تبناها، واعتبر القوة هي الوسيلة المثلى لتحقيقها، وأهمها القضاء المبرم على «حماس» وإعادة الأسرى وسحق أي تهديد أمني محتمل من جانب غزة.
عملياً، لم يبدِ نتانياهو أي تأفف من سطوة المستوطنين على قراراته، التي جعلته أقرب إلى موقع المتحدث الرسمي باسمهم، بل أغلق سمعه وبصره أمام كل الأصوات المتأذية من هذه الوضعية في الداخل والخارج، بما في ذلك مناشدات أهالي الأسرى الإسرائيليين وتظاهراتهم العاطفة على وقف القتال، ولو لفترة تسمح بانتشال أبنائهم من الأسر وإنقاذهم من احتمال الهلاك بالنيران الصديقة أو المعادية.
في التحليل الأخير، لم يكن نتانياهو مكرهاً على الطأطأة لقطاعات المستوطنين وخطابهم العنصري شديد التطرف والدموية، ذلك أن تهديداتهم المتكررة بمغادرة ائتلاف الحكومة وإسقاطها وإسقاطه كانت توازيها تعهدات من المعارضة بتشكيل شبكة أمان لاستمراره وائتلافه في سدة الحكم، إذا ما أقدم على التهدئة.
بعض ما يفهم من ذلك أن الشراكة العضوية مع جماعات المستوطنين في الضفة والقدس (أكثر من 10% من مجموع الإسرائيليين اليهود)، كانت من أبرز محددات سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي في غضون هذه الحرب.
كانت هذه الشراكة، القائمة على أسس وقناعات فكرية أيديولوجية وعقائدية توراتية، التي يصح وصفها بالاستراتيجية، مفضلة لديه على أي تعاون براغماتي أو سياسي لحظي مع المعارضة.
بموافقته المتأخرة جداً على صفقة التهدئة، لم يعتبر نتانياهو أنه قد خان شركاء الداخل من غلاة المستوطنين وسواهم من الموسومين بالتطرف، الأقرب للسياق أنه بادر بتقديم هدية للرئيس الأمريكي ترامب، بحسبه الظهير العتيد، الأقوى دولياً، الضامن لأهداف إسرائيل العليا، بما فيها ديمومة التوسع الاستيطاني.
والظاهر أن الرئيس ترامب لم يتأخر بدوره في رد الهدية بأحسن منها، ذلك بأن ألغى في أول ساعة من ولايته عقوبات سلفه بايدن ضد جماعات وأفراد من المستوطنين المتطرفين، لاقترافهم أعمال عنف بحق الفلسطينيين في الضفة.
هذا العفو المبكر يعد نذيراً بأن الأراضي المرشحة لقيام الدولة الفلسطينية، الضفة والقدس بخاصة، ستكون متاحة لموجة كبرى من المد الاستيطاني الإسرائيلي، تحت رعاية علنية من الولاية الثانية للرئيس ترامب.
ونحسب أن هذا التصور سيحظى بالصدقية بغض النظر عن مصير حقبة نتانياهو، العراب الأكبر للاستيطان والمستوطنين منذ 1967، فالحق أنه رغم الدور الذي مارسته هذه الحقبة في إقرار الزحف الاستيطاني، ورفعه إلى مكانة الأولوية في السياسة الإسرائيلية الفلسطينية، إلا أنه كان، في هذا الإطار، دوراً تكميلياً، وليس تأسيسياً.
لقد كانت عقيدة استيطان الرحاب الفلسطينية وقضمها عمود خيمة المشروع الصهيوني منذ ما قبل قيام إسرائيل الدولة. وكان المفترض أن تكون عملية التسوية ومسار أوسلو مع الفلسطينيين قد هيآ البيئة السياسية الإسرائيلية لحدوث قطيعة ما مع هذه العقيدة.
ولكن يحسب لنتانياهو أنه تجاهل تماماً منتجات هذين المتغيرين الفارقين، وانحاز كلياً لنداءات أحفاد وأبناء المستوطنين الأوائل، على غرار بن غفير وسموتريتش وأشياعهم، معتبراً إياهم سدنة هذا المشروع وحراسه الأمناء.
وبهذا التصرف أعاد الرجل، الذي سيطر على القرار الإسرائيلي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تقريباً، الصراع على أرض فلسطين إلى مربعاته الأولى.
في كل حال، سواء غادر نتانياهو مركز صناعة القرار لسبب أو آخر، أم تمكن بمراوغاته وألاعيبه من إعادة تسويق نفسه، فإن قطاعات الاستيطان والمستوطنين ستنسب إليه فضل زيادة التمكين لهم وإحياء ثقافتهم في هذا المركز أو بالقرب منه.
سيقولون إنهم عاشوا في عهده زمناً رغداً، وسيعمدون إلى إطالة عمر هذا الزمن واستلهام مثله، مستندين في ذلك إلى ما أنجزوه بالفعل، وإلى حماية ودعم لن تبخل بهما عليهم إدارة ترامب وبطانته من الصقور في واشنطن.