ترتيب الأدوار في حواراتنا

الحديث مع الآخرين يشبه الوقوف في طابور طويل، فكلما طال أمد الانتظار من دون مشاركة فاعلة زاد الضجر وربما الاستياء. بعض المتكلمين ينسون أنفسهم ويغرقون في تفاصيل الحديث وينسون أو يتناسون من ينتظرون فرصة الدخول في الحوار.

هذا التجاهل لمشاعر الواقفين في طابور الانتظار يضر بحماسة المتابعة ويصرف البعض عن مواصلة الاستماع وربما الاكتراث بمجريات الكلام.. ذلك أن الحوار الفعال هو الذي يقوم على فكرة جوهرية وهي تناوب الأدوار الذي لاحظه الباحثون عبر ثقافات متعددة. وكلما زاد تجاهل هذا التناوب فتح باب المقاطعات التي تقطع سلاسة الحديث.

ولذا فإن العلماء حينما حاولوا دراسة ما يجري في حوارات الناس، من مختلف الأقطار، لاحظوا أن هناك مفهوماً واحداً يجمعنا وهو تناوب الأدوار (Turn-taking)، غير أن بعض المتحدثين لا ينتبه إلى أن هناك ثلاثة أمور على الأقل تحدث في لحظات الانتظار أو تناوب الأدوار، إذا لم يراعها المتحدث فإن الناس حتماً ستقاطعه، وربما تقطع عليه حبل أفكاره.

الأولى هي الشروع في المقاطعة overlap وهي البدء في الكلام في أثناء تحدث الطرف الآخر، أي تتشابك عبارات كلا الطرفين.. وكثرتها تعد مؤشراً سلبياً على عدم انتباه المتحدث لرغبة المستمعين في المداخلة، كما تشير إلى النقطة الثانية التي تحدث في أثناء تناوب الأدوار، وهي عدم الانتباه إلى الإيماءات، ومنها حركة فم المستمعين وأجسادهم.

مثل الحرف O باللغة الإنجليزية الذي يرتسم على ثغر من يتابع الحديث الذي يعتبر مؤشراً على الرغبة في التعليق.. فهذه الوضعية الدائرية ترمز إلى محاولة نطق الحرف الأول من المداخلة التي لا يبدو أن المتحدث ينتبه إليها.

وفي مرحلة متقدمة من تجاهل المتحدث لتلك الإيماءات يضطر المستمع إلى لمس كتف أو ذراع المتحدث لينبهه إلى أنه أو من يجلس بجانبه يرغب في التعليق! ولسان حاله يقول أرجوك أكرمنا بسكوتك قليلاً.

ومن الصور الجلية لتجاهل مؤشرات الرغبة في الدخول في الحوار (التناوب) أن يجد من ضاق به الانتظار نفسه مضطراً لرفع راحة يده أو أصبعه، لا إرادياً نحو المتحدث، على طريقة الفصول الدراسية، ليخبره بأنه يود التعليق.

النقطة الثالثة هي حركة العين فحدقة عين المستمعين تتسع وتضيق في إشارات متعددة للرغبة في المشاركة، وقلما ينتبه إليها من يحتكر ناصية الحديث.

أزمة انتظار الدور أو «التناوب» مشكلة أزلية في مختلف الثقافات، لكن قلما تجد دراسات علمية أو كتب عملية تشرح كيف ومتى نقاطع ومتى لا يجب أن نقاطع مهما كانت الأسباب.. من هنا وجدت نفسي مضطراً لتأليف كتاب بعنوان: لا تقاطعني!.

وهو ربما الأول من نوعه في المكتبة العربية، وفيه دراستان أعددتهما على عينة من المشاركين العرب في البرامج الحوارية وبرلمان الكويت.. وهذه محاولة متواضعة جداً لإثراء الأدبيات العربية بتداعيات تلك الآفة التي تلتهم الحوار والمتحدث وتتعب المستمعين إذا لم نحسن التعامل معها..

ولذا قال الحسن البصري: إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حُسنَ الاستماع كما تتعلم حُسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه..

ومع ذلك نقول هناك مقاطعات كثيرة محمودة ومطلوبة، ذكرتها في كتابي، في مقدمتها التي تأتي في الوقت المناسب، وبعد أن يُمنح المتحدث دوره في التعبير عن نفسه بأريحية.