أهم ما في النبأ الذي أذاعته وكالة بلومبرغ مؤخراً عن الصين أنه يقول، إن الدول التي تخاطب المستقبل لا بد أن تنتهج سياسة مرنة في حاضرها، وألا تجد حرجاً في العودة عن سياسة تبين لها أنها ليست السياسة الواجبة.
الوكالة نقلت عن مسؤول صيني أن الحكومة في بلاده تفكر بجدية في صرف حافز مادي للأُسر، التي تنجب أكثر.
سبحان الله، ففي سنوات سابقة وحتى 2016 كانت الأسرة الصينية، التي تنجب أكثر من طفلين تتلقى تحذيراً من الحكومة، وكان التحذير يقول، إن كل طفل فيما بعد الطفلين لا علاقة للحكومة به على مستوى الخدمات العامة، وإنه سيكون محروماً من هذه الخدمات المدعومة منها كالتعليم والصحة، وإنه إذا مرض مثلاً فسوف يكون عليه أن يتلقى العلاج على حسابه وكذلك الأمر في التعليم!
لقد دار الزمان دورته وجئنا إلى 2025، لتعلن الحكومة حسب ما أذاعت الوكالة، أن كل طفل مولود بعد الأول من يناير ستحصل أسرته على 500 دولار سنوياً لمدة ثلاث سنوات!
ولكن السؤال هو: لماذا تفكر الحكومة في بكين بهذه الطريقة؟ وهل السبب هو تراجع عدد السكان، أم ماذا على وجه التحديد؟
سوف يتبين لنا أن إحصاءات المواليد في 2024 كشفت عن أن العدد يمثل نصف عدد المواليد في 2016، أي السنة نفسها التي تحللت فيها الصين من سياستها السكانية الشهيرة.
إننا نذكر أن تلك السياسة السكانية فرضت في البداية طفلاً واحداً، ثم رفعت العدد لاحقاً إلى طفلين، ثم ألغت تلك السياسة تماماً، وأصبح في مقدور كل أسرة أن تنجب ما تحب من الأطفال.
الغريب أن الأسرة الصينية لم تستجب، وفضلت الإقلال من عدد الأطفال طوعياً، وكأن القانون القديم لا يزال سارياً يعمل.
وقد كانت النتيجة المباشرة لسياسة ضبط عدد السكان الصينيين أن الصين التي كانت أعلى دول العالم سكاناً قد أخذت خطوة إلى الوراء في هذا التصنيف وتقدمت عليها الهند، كان ذلك في أبريل 2023، ومن يومها فقد الصينيون هذه الميزة، إذا جاز لنا أن نعتبر الزيادة السكانية في حد ذاتها ميزة تزهو بها الدولة بين الدول، فهناك دول ترى أي زيادة تمثل عبئاً تحاول التخلص منه بأي طريقة.
غير أن حصيلة أخرى غير مباشرة للسياسة السكانية، التي أقلع عنها الصينيون في 2016 كانت في انتظار الحكومة الصينية.
هذه الحصيلة تمثلت في تراجع عدد من هم في سن العمل، لا عدد السكان في الإجمال، وكان ذلك ما أزعج الحكومة أشد الإزعاج ولا يزال يؤرقها، لأن الصين اشتهرت بين الدول بضخامة الأيدي العاملة لديها، وبقدرات تتميز بها هذه الأيدي العاملة عند المقارنة بينها وبين سواها، فإذا فقدت حكومة الرئيس شي جيبينج في بكين هذه الميزة فإنها تفقد الكثير جداً بين الحكومات.
إننا نعرف أن الصين إلى سنوات قليلة مضت كانت هي الاقتصاد الثالث عالمياً، وكانت تستقر اقتصادياً في مرتبة ثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وبعد اليابان، ولكنها بسبب حجم ما تنتجه تقدمت على اليابان، وجلست وراء الولايات المتحدة، بل وصارت تطمح في أن تجلس في مقعد الاقتصاد الأول في العالم، وهي لم تتقدم على اليابان في السابق، ولا فكرت في التقدم على الولايات المتحدة في اللاحق، إلا عن أرضية ثابتة تتجسد في الأيدي العاملة لديها عدداً وكيفاً.
ولا مشكلة في الكيف عندها، لأن العامل الصيني الذي كان يعمل بمهارة عالية في الأمس سيظل في الأغلب يعمل بالمهارة ذاتها في الغد، وربما يعمل بمهارة أعلى بحكم التطور في المهارات نفسها، ولكن الإشكال يظل في العدد، لأن حاصل جمع ما ينتجه خمسة عمال مهرة، يقل بالضرورة عن حاصل جمع ما ينتجه ستة من العمال المهرة أيضاً، وبالتالي ينعكس هذا عن الناتج المحلي الإجمالي، وتصبح الصين غير مستقرة في مقعدها الثاني وراء المقعد الأمريكي.
هذا هو ما جعلها تفكر سريعاً، ثم تقرر سريعاً أيضاً، وهذا ما جعلها تحسبها بينها وبين نفسها، فتكتشف أن تقديم 500 دولار لكل طفل يولد بدءاً من الأول من يناير في هذه السنة قد يشكل عبئاً اقتصادياً عليها، غير أن تراجع أعداد الأيدي العاملة، أو عدد من هم في سن العمل يظل عبئاً أكبر لا تحتمله البلاد على المدى البعيد.