هل عاد العالم إلى العهد الاستعماري السحيق، وسقطت الشرعيات الدولية، والأممية عن سيادات الدول واحترام حدودها المعترف بها دولياً؟
مبعث هذا السؤال هو تهديد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بالسيطرة العسكرية على قناة بنما، وجزيرة غرينلاند وضم كندا بالقوة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بل تهديد المكسيك!
وإذا كان ترامب يفعل ذلك مع دول ومناطق مصنفة قريبة وصديقة من الولايات المتحدة، فما عساه أن يفعل مع دول بعيدة ومصنفة عدوة لبلاده؟
والسؤال الأهم هو ما الذي يمكن لكندا وبنما والمكسيك وأوروبا أن تفعله لمواجهة الميول والتهديدات «الترامبية»؟!
الرئيس ترامب يفاجئ العالم دائماً بكل ما هو جديد وغريب، ولم يكن أحد يظن إطلاقاً أن يتحدث بهذه اللغة التهديدية ضد بنما والدنمارك وكندا والمكسيك، قبل أقل من أسبوعين من دخوله رئيساً رسمياً إلى البيت الأبيض في 20 يناير الجاري، لكن البعض يقول إن هذه هي طبيعة ترامب، وهكذا أيضاً يفكر أنصاره ومبدأهم أن فكرة السيادة التقليدية للدول قديمة ومتهالكة، ومن لا يصدق ذلك فعليه مراجعة أفكار وتقديرات إيلون ماسك أقوى حلفاء ترامب الآن حينما تدخل بصورة سافرة في الشؤون الداخلية لأقوى حليفين لأمريكا في العالم وهما بريطانيا وألمانيا، وهذا موضوع آخر يستحق المزيد من النقاش.
في الأيام الماضية بدأ ترامب يكرر بصورة منتظمة تهديداته لكل من غرينلاند وبنما وكندا والمكسيك.
نعلم أن غرينلاند هي واحدة من أكبر الجزر في العالم، وهي جزء من دولة الدنمارك منذ 600 عام تقريباً، بالحكم الذاتي، وتسعى إلى الاستقلال عن الدنمارك، وعلى حد قول وزير خارجية الدنمارك، لارس لوكي راسموسن، فإنه حتى لو استقلت الجزيرة فإنها لا تريد أن تصبح جزءاً من الولايات المتحدة.
السؤال: لماذا يطمع ترامب فى غرينلاند؟
الإجابة المعلنة هي المخاوف من زيادة النفوذ الصيني والروسي في القطب الشمالي، وهي مخاوف مشروعة من وجهة نظر كوبنهاغن، ويمكن مناقشتها بين البلدين بصورة متحضرة للبحث عن حلول، لكن لا ينبغي أبداً الاستيلاء الأمريكي عليها عسكرياً كما تقول كوبنهاغن.
ورئيسة الوزراء الدنماركية، ميتى فريدركسن، تستبعد إمكانية الضم الأمريكي بالقوة.
ما لا يقوله ترامب وأنصاره إن هناك ثروات طبيعية كثيرة في الجزيرة، وربما يكون ذلك هو السبب الرئيسي في أطماع ترامب.
فيما يتعلق بقناة بنما فالمعروف أن الولايات المتحدة هي التي شيدتها، وتم افتتاحها عام 1914، وانتقلت السيطرة عليها رسمياً إلى بنما عام 1999 بموجب معاهدة تم توقيعها عام 1977 في عهد الرئيس الراحل جيمي كارتر، والزعيم البنمي عمر توريخوس، والقناة التي تعد ثاني أهم ممر ملاحي عالمي اصطناعي بعد قناة السويس، تربط بين المحيطين الهادئ والأطلنطي، وتمتد على مسافة 82 كيلو متراً، وتقسم ما بين أمريكا الشمالية والجنوبية.
ترامب يقول إننا نحتاج إلى القناة من أجل الاقتصاد الأمريكي إلا إذا قامت بنما بالسماح بمرور السفن الأمريكية مجاناً من دون رسوم أو تخفيضها بنسب كبيرة جداً، والأخطر أن ترامب لا يستبعد مطلقاً اللجوء إلى القوة لضم بنما أو غرينلاند إذا لم يقبلا الضم طوعاً.
وردت بنما بالقول إن «سيادتها غير قابلة للتفاوض، وهي جزء من تاريخنا النضالي، وإن القناة عادت إلينا من دون رجعة».
ومن بنما إلى كندا، حيث لوح ترامب أكثر من مرة بضمها لأمريكا، لتصبح الولاية رقم 51، باستخدام «القوة الاقتصادية»، بل وصف رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، بأنه مجرد حاكم لكندا وليس رئيس وزارائها، وغازل سكانها بأنهم في حالة الانضمام لأمريكا فإن مستوى معيشتهم سوف يرتفع، ومشاكلهم الاقتصادية سوف يتم حلها، وإذا رفضوا فإنه سيرفع التعريفة الجمركية على السلع الكندية بنسبة 25 %.
ترودو، الذي استقال من رئاسة حزبه الليبرالي على خلفية مشاكل كثيرة، منها تهديدات ترامب، فقد رفض تماماً منطق ترامب، قائلاً إنه لا توجد أي فرصة بأن تصبح كندا جزءاً من الولايات المتحدة.
تهديدات ترامب امتدت أيضاً إلى المكسيك، التي قال عنها إن خليجها كان أمريكياً، لكن رئيسة المكسيك، كلاوديا شينباوم، ردت على ترامب بالقول: «اسم خليج المكسيك معترف به دولياً، وترامب يعيش في الماضي، وعليه أن يدرك أن خريطة المكسيك السابقة كانت تشمل أراضي وولايات أصبحت الآن جزءاً من أمريكا».
شينباوم ختمت كلامها متهكمة على ترامب: «لو عدنا للتاريخ فإنه يحق لنا القول «أمريكا المكسيكية» وليس «خليج المكسيك الأمريكي».
السؤال مرة أخرى: ماذا يعني كل ذلك؟ وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، قال في أوضح رد أوروبي على ترامب: «لا أعتقد أن أمريكا سوف تغزو غرينلاند، نحن قارة قوية، ولن نسمح لدول أخرى بمهاجمة حدودنا السيادية أياً كانت تلك الدولة».
السؤال الأخير: ما مغزى كل تهديدات ترامب؟ أظن أنه جرب أن يطلق تهديداته ضد الجميع، ويحصل على ما يريده أو بعض ما يريده. هو يريد أن يحصل على أكبر قدر من الثروات والأثمان والأموال والمزايا حتى يقول للأمريكيين: «لقد حققت لكم ما لم يستطع أن يفعله أحد قبلي».
يريد من حلف الناتو المزيد من المساهمة المالية في الميزانية، ومن دول أوروبا أن ترفع ميزانياتها الدفاعية، ومن اليابان وكوريا أن يدفعا لأمريكا مقابل الحماية العسكرية، ومن الصين تقليل صادراتها حتى يتحسن الميزان التجاري بينهما، وبالتالي ينتعش الاقتصاد الأمريكي.
من سوء حظ العالم أننا بصدد صعود اليمين المتطرف في أكثر من بقعة في العالم، ومن سوء حظ المنطقة العربية أن أكثر المستفيدين من وجود ترامب وأفكاره هو اليمين المتطرف في إسرائيل، الذي يريد أن ينتهز عودة ترامب لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط بأكملها، خصوصاً أن ترامب كان قد قال صراحة إن «إسرائيل دولة صغيرة وتحتاج إلى التوسع».