الشاعر محمد سعيد الهلي وإحياء التراث الشعبي

يقف الشاعر العريق وخبير التراث الإماراتي «محمد سعيد الهلي» في «قرية دبي النموذجية للتراث والثقافة» التي أنشأها في مسقط رأسه في لهباب وهو يحمل شعلة التراث الشعبي الإماراتي، منذ عقود طويلة، والتي بدأها بتأسيس «جمعية إحياء التراث الشعبي»، وأنه وحسب روايته، طلبه الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وشرح له فكرة الجمعية، وقال للهلي: «نأخذ من الماضي أفضله، ومن الحاضر أفضله لنحافظ على هويتنا»، فرفع الوالد المؤسس يد الهلي وقال للموجودين: «هذا أملنا في المجتمع للمحافظة على هويتنا الوطنية»، ثم تشرف الهلي بعدها بزيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، لمساعدته في تطبيق برامج الجمعية في مجال إحياء التراث، فكتب الهلي للشيخ زايد، طيب الله ثراه، رداً على معروف دعم إنشاء الجمعية، قصيدته الشهيرة:

«يا شيخ منظوم القوافي تغنّاكْ

الشعر يلقى مزمله في كنوفكْ

أمدحك بما يملي القلب جدواك

مدح الصدوق اللي يعرف معروفك

زولك بعيني يجبرنّه مزاياك

لو غاب شخصك عن عيوني أشوفك»

وقد كنت شاهدة حية على أفكار ومبادرات كثيرة تؤسس لحماية وحفظ التراث سارع الهلي إلى إنجازها، وكانت أهمية «قرية دبي النموذجية» أحد أبرز المشاريع التي تجسد رؤية الهلي للحفاظ على التراث.

فزرتها مرات عدة، وأرسلت فريقي البحثي أخيراً لإيجاد أفضل الطرق والإمكانيات التي يمكن من خلالها وضع خطة لإحياء القرية الجميلة التي تفوح منها رائحة عراقة ماضي الإمارات كفضاء حي يعيد صياغة الحياة الإماراتية القديمة بطريقة تفاعلية ملهمة.

حيث يمكن للزائر أن يعيش تجربة العودة إلى الماضي من خلال البيوت التقليدية، الأسواق التراثية، وعروض الحرف اليدوية.

ولد محمد سعيد الهلي، في قرية لهباب عام 1955، وأعتبره ويعتبره خبراء التراث من أبرز رموز التراث الإماراتي وأحد مفجري ينابيع المبادرات الوطنية.

عاش حياة بسيطة متشبثة بجذوره البدوية الأصيلة التي تظهر بوضوح في كل تفاصيل شخصيته، بدءاً من تواضعه البادي في استقبال الضيوف في بيت الشعر، إلى حرصه على تعزيز عادات البادية وتقاليدها.

وقد بدأ الهلي مسيرته متطوعاً في أول جيش إماراتي وهو ابن الخامسة عشرة، مما عكس حبه العميق لوطنه وشعبه. وواصل جهوده ليصبح خبيراً تراثياً وشاعراً بدوياً حمل على عاتقه مسؤولية الحفاظ على الهوية الإماراتية.

أسس جمعية إحياء التراث الشعبي، ونجح في تنظيم القرى التراثية في الدولة، كما شارك في تمثيل الإمارات في الفعاليات التراثية الدولية، محققاً مراكز أولى في مسابقات عالمية.

الهلي يجسد الذاكرة الحية للبادية وقيمها النبيلة، حيث يرى في التراث الجسر الذي يربط الأجيال بحاضرها ومستقبلها.

يدعو إلى حماية العادات الإماراتية التي يعتبرها «رأس مال أخلاقي» للأمة، مطالباً بتطوير رؤية واضحة لتوريثها وتعزيزها وجعلها جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية.

أما قصائده وكلماته وحياته فهي تعكس الروح الإماراتية الأصيلة التي تجمع بين عظمة القيم وبساطة الصحراء، مما يبرز دور التراث في حفظ كرامة الإنسان وهويته.

قرية دبي النموذجية التراثية هي بمثابة «ذاكرة مكانية» كما وصفها الفيلسوف الفرنسي «بيير نورا»، حيث تتحول الأماكن إلى رموز حية تعزز الذاكرة الجماعية.

وفي ظل عالم يتغير بسرعة، تصبح قرية دبي التراثية منصة تذكر الإماراتيين والمقيمين والسياح بجماليات التراث وبأهميته في تشكيل الهوية الوطنية، وتحتاج القرية، حسب وجهة نظري، إلى الكثير من العناية والتشجيع والدعم سواء من المؤسسات أم من الأفراد الذين يهتمون بدعم تراثهم الأصيل.

رؤية الهلي التي أعرفها، لم تقتصر على حفظ التراث، بل امتدت لتشمل تعليم الأجيال الجديدة، وخصوصاً النساء، عبر مراكز ثقافية تروج للفنون والحرف التقليدية.

هذه المراكز، التي انطلقت بتوجيهات القيادة، كانت خطوة متقدمة نحو تعزيز دور المرأة كحارسة للتراث وقائدة للتنمية الاجتماعية.

الهلي يمتلك أيضاً حلماً ورؤية للمستقبل، يود تنفيذ مشروع «ثمرة الاتحاد»، الذي يهدف إلى تنظيم مسيرات وفعاليات تراثية تجوب الإمارات والعالم، تسجل وتوثق أن الإمارات هي بلد التسامح والسلام، وأن تاريخها وتراثها ورسائلها إلى العالم أجمع، مكرسة ومركزة في تأكيد هذه الهوية الإماراتية الوطنية السمحة، التي نبتت في أرض القيم الإماراتية الأصيلة، منذ وطئت قدما أول إنسان هذه الأرض الطيبة.

في ظل المشاريع الكبيرة التي تخدم التراث، من الضروري دعم رواده بأشكال متعددة. يتطلب الأمر من الهيئات والمؤسسات المحلية، مثل وزارة الثقافة والدوائر التراثية، تقديم دعم مالي وتنظيمي لتوسيع نطاق هذه المبادرات. ودعم وتطوير فلسفة التراث التي تبناها محمد سعيد الهلي بـ «تحويل التراث من مجرد موروث جامد إلى مصدر للإلهام الثقافي والاجتماعي».