منذ ما يقرب من أربعين عاماً، وأنا أفكر كيف نحول عناصر التراث وأدواته وحرفه إلى منتج إماراتي عالمي.
كنت أتنقل بين الإمارات المختلفة، في القرى البعيدة النائية، في الأسواق الشعبية، في الصحراء وعلى الساحل وبين الجبال، أجمع البيانات والمعلومات والصور، أبحث عن الحرفيين، أستمع لكبار السن، وأدون الملاحظات، وأقوم بالدراسات التراثية المتخصصة، وأصدر الكتب حول التراث، وكانت تلك الفكرة تشغل بالي بشكل دائم.
في المؤتمرات والمنتديات وورش العمل، مع الخبراء، كنت أردد دائماً، أن الحرف الشعبية التي تشهد على ماضينا الأصيل هي أيضاً استثمار في مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة، ومع مرور الوقت، بقي هذا الحلم الجميل حيّاً في وجداني: إنشاء مصنع تراثي إماراتي شامل، يكون منصّة إنتاجية حقيقية للحرف الشعبية، ويحمل معها الرسالة الثقافية والتجارية معاً.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، وبعد عدة ورش عمل جمعتنا مع خبراء الحرف الشعبية ومع وزارة الثقافة والشباب، قررت تحويل هذه الفكرة التي تشغل بالي كلياً إلى مشروع فعلي، مع دراسة جدوى، وخطة عمل، ومبادرة للتعاون مع المؤسسات المعنية والمهتمة.
إن مصنع التراث الذي نأمل أن يُبصر النور قريباً، هو مشروع حياة، مشروع يحيي الحرف التي كادت تندثر، ويعيد الاعتبار إلى أكثر من 100 حرفة إماراتية شعبية من أصل ما يزيد عن 300 حرفة إماراتية تقليدية موثقة، تتنوع بين الحرف البحرية والزراعية، وحرف النساء، والفنون الشعبية، والأدوات المنزلية، والمعارف الفلكية، والمأكولات التقليدية، والعمارة القديمة، وغيرها من كنوز الهوية.
خلال إعداد دراسة جدوى المشروع، استطعنا تحديد أكثر من خمس وعشرين منظومة تراثية متكاملة، تضم طيفاً غنياً من الحرف التقليدية التي يمكن تحويلها إلى منتجات حقيقية، تحمل الهوية الإماراتية وتخاطب السوق المحلي والعالمي.
من «النقش على الفضة» الذي يُحاكي أذواق المهتمين بالحلي اليدوية، إلى «التلي» بخيوطه المبهرة، و«الزري» الذي يزيّن الأثواب ويستحضر تقاليد الأناقة البدوية، وصولاً إلى منتجات العناية الصحية التراثية مثل «المبخرة» التي ترتبط بطقوس الشفاء والضيافة.
هذه الحرف، وهي رموز ثقافية نعتز بها، هي أيضاً فرص اقتصادية واعدة، يمكن تحويلها إلى خطوط إنتاج صغيرة ضمن وحدات تخصصية في المصنع.
إننا لا نتحدث هنا عن حفظ التراث وصونه فحسب، بل عن تفعيله في الحياة اليومية: عطور مستخلصة من وصفات الجدات، أزياء إماراتية تقليدية مميزة وفريدة، مبخرات مصممة يدوياً، منتجات الخوص وسعف النخل كصناعة السلال، القفاف، البسط، الفرش، والحصير، أدوات مطبخ من النحاس المحفور، ومنتجات عشبية أو ورقية من أشجارنا المباركة الآمنة، وغيرها، ووجدنا أن كل حرفة، وكل تقنية، تحمل إمكانية التحول إلى منتج يحمل علامة «صناعة يدوية تراثية إماراتية»، ليكون سفيراً لثقافتنا في الأسواق والمتاحف والمهرجانات العربية والدولية.
رؤية هذا المشروع أن يكون حاضنة تراثية إنتاجية مستدامة، ومركزاً للتدريب ونقل المهارات، ومنصة للتسويق المحلي والدولي. أما رسالته فهي واضحة: حماية الحرف الشعبية من الاندثار وتحويلها إلى رموز عالمية من المنتجات الحية، القابلة للتداول والاقتناء والاستعمال، وأن تحمل رسالتنا المفعمة بالهوية والذاكرة.
ما يجعل هذا المصنع ضرورة وطنية، هو قيمته التراثية، وأيضاً مردوده المجتمعي. فهو مشروع تنموي يوفّر فرص عمل للحرفيين، ويمكّن النساء، ويحيي الذاكرة الجمعية، ويعزز السياحة الثقافية. كما أنه يسهم في إدماج الحرف في سلاسل الاقتصاد الإبداعي، ويقدّم منتجات يمكن أن تنافس عالمياً، إذا ما تم تصميمها وتسويقها باحترافية، وربطها بهوية الإمارات.
كما أن وجود هذا المصنع سيفتح آفاقاً للشراكة مع المؤسسات التعليمية، ومراكز الأبحاث، وبيوت التصميم، والمعارض الدولية.
وسيمكّننا من أرشفة وتوثيق المهارات الميدانية، وتقديمها للأجيال الجديدة بوسائل معاصرة، مثل التطبيقات الرقمية، والأفلام الوثائقية، والدورات التدريبية.
خلال إعداد هذا المشروع، عملنا على جمع أصوات الحرفيين، واستمعنا لتجارب من سبقونا في هذا المجال، من دول الخليج، والمغرب، والهند، وغيرها. واكتشفنا أن الفرصة أمامنا كبيرة، بشرط أن تكون لدينا إرادة ثقافية، وتمويل مستقر، واستراتيجية مرنة تحترم الأصول وتواكب الحداثة.
إن إدراج هذا المشروع أمام الجهات المعنية هو خطوة في الاتجاه الصحيح. ونأمل أن يجد تجاوباً كريماً من هذه المؤسسات الوطنية، التي عهدنا فيها دعم المبادرات التنموية والمجتمعية.
ونحن على يقين من أن هذا المصنع، سيكون علامة فارقة في مشروع حفظ التراث الإماراتي، ومثالاً يُحتذى به في الاستثمار الثقافي المستدام.
أدعو اليوم إلى دعم هذا المشروع بكل الإمكانيات، ليس فقط لأنه يُعيد الاعتبار للحِرَف، بل لأنه يُعيد الاعتبار للناس الذين حفظوا هذه الحرف في وجدانهم، ومارسوها بقلوبهم وأيديهم. دعونا نُعطِهم الفرصة كي يُنقل تراثهم من الخيمة إلى المصنع، ومن الذاكرة إلى المنتج، ومن الزاوية التراثية إلى رفوف الأسواق.
مصنع التراث الإماراتي.. أمل يتحقق، من أجل الماضي الجميل ومن أجل المستقبل الذي يحكي تاريخنا.