طه حسين والهندسة الاجتماعية

في ضوء ما تمر به أغلب المجتمعات العربية من اضطراب، سياسي واجتماعي، عدت من جديد إلى كتاب طه حسين (المعذبون في الأرض).

أصل الكتاب مجموعة مقالات نشرت في الصحف المصرية قبل ثورة 1952، ثم جمعت في شكل كتاب، إلا أنه بصيغة كتاب منع من التداول في مصر ثم تسرب إلى بيروت فطبع هناك، وعاد (مهرباً) كي يقرأه أكبر عدد من المصريين على أساس القول الشائع (كل ممنوع مرغوب)، ثم أعيد طبعه، ووزع في مصر بعد حركة الضباط!

الكتاب يسرد في أسلوب شبه قصصي بعض الصور الاجتماعية للفاقة والفقر والظلم في أنحاء مصر، بين أغلبية كما يقول (يحرقهم الشوق إلى العدل، وأقلية يؤرقهم الخوف من العدل)، ويرى أن المجتمع المصري آنذاك منقسم إلى أغلبية فقيرة ومعدمة و(مظلومة)، وأقلية مترفة (مشغولة بيسرها عن الناس، تشتهي فتلغي ما تشتهي حتى تسأم شهواتها)!

قبل ثورة يوليو 1952 كان المجتمع المصري يغلي بشتى أنواع الحركات السياسية. وكان تأثير ما بعد الحرب العظمى الثانية على مصر ثقيلاً، فنشأت جماعات غاضبة، تتحدث عن العدل والمساواة، ولأن الثورة قد حدثت، تم طمس كل الإيجابيات إبان العصر الذي سبقها، واقتنع كثيرون (بإيجابية تغيير النظام) ومنهم نخبة وازنة، مهدت لذلك التغيير.

الكاتب ابن عصره كما يقال، وطه حسين، والمجموعة المثقفة في تلك الفترة كانت تنادي بالتغيير، ولكن من منظور (التوزيع) وليس من منظور (الإنتاج).

وكان من وصل إلى الحكم مجموعة ضباط خبرتهم السياسية قليلة وشعورهم الوطني كبير، فقاموا بهندسة اجتماعية كبرى في مصر، تأثرت بها بلدان عربية كثيرة، من خلال فكرة (التوزيع) كان حل الضباط السياسي، فكان برنامج الإصلاح الزراعي الذي فتت الملكية الزراعية، وإن بدا وقتها شكلاً من أشكال التوزيع، إلا أن نتائجه كانت كارثية بعد سنين على الإنتاج الزراعي، ثم جاء التأميم، فكان بعد فترة كارثة على الصناعة والخدمات، تلك الأفكار (الإصلاح الزراعي والتأميم) كما كانت تدعى، كررت في كل من البلدان التي فيها شيء من الزراعة أو الصناعة الوليدة، مثل العراق وسوريا، دون تفكير (من جديد) بأهمية الإنتاج للمجتمع.

على صعيد آخر، تم فتح التعليم العالي على مصراعيه، لأسباب سياسية، مع عدم إمكانية الحفاظ على مستواه، فتدنى مستوى التعليم مع مرور السنوات، بعد أن كانت النخب المتعلمة المصرية، هي زبدة التعليم في العالم العربي، الكم قلب على الكيف بعد حين، وتبين بعد عدد من العقود، الفرق الواضح بين (متعلمي ومثقفي) ثلاثينيات وأربعينيات مصر، وبين ستينيات وسبعينيات مخرجات التعليم، وأثر ذلك في المنطقة العربية، عدا شهوة ضباط الجيوش في الجوار إلى الحكم، في ليبيا والسودان وسوريا والعراق، للقفز السريع على الحكم مصحوبين بضجة كبرى في الشعارات، التي انتهت إلى ما انتهت إليه في مطلع القرن الحالي من (خيبة أمل) وصراعات كلفت الكثير، ومن تدني مخرجات التعليم، وأيضاً تدني الإنتاج.

العراق كان يصدر القمح من بين إنتاج زراعي وفير، ومصر كانت تصدر القطن من بين إنتاج زراعي وفير، وسوريا كانت تنشط في الزراعة والصناعة. كل ذلك تلاشى تدريجياً، كي تتحول كل تلك الدول من دائنة للاقتصاديات الكبرى في وقتها، إلى غارقة في الدين!

الهندسة الاجتماعية أو إعادة الهندسة الاجتماعية، تحتاج إلى فكر نير، وسقف عال من الحرية الفكرية، والتي تتيح عرض الأفكار والتصورات، وإخضاعها لمنهج تقدير الفرضيات وتصور النتائج، فإن اتخذ قرار دون دراسة نتائجه على المدى القصير والمتوسط، كانت نتائجه السلبية محققة، وتسبب بكارثة طويلة المدى للمجتمعات، يكون الخروج منه عملاً شبه مستحيل.

وقد قيل: إن (النية الطيبة مفروشة بالندم)!! ترى هل يفكر الجيل الجديد في مغبة القرارات الشعاراتية؟