في السنوات الأخيرة برزت أسماء لنساء خليجيات في بلدان مجلس التعاون تبوأن أعلى المناصب القيادية في العديد من المجالات، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، وذلك بفضل دعم القيادات الحكيمة في دولهن من جهة، ومن جهة أخرى بفضل حصولهن على حقوقهن كاملة، ولا سيما في التعليم والابتعاث، ما ساعدهن على اقتحام مختلف المهن والوظائف.
وحول ما إذا كانت المرأة الخليجية قادرة على تمثيل نفسها اقتصادياً وسياسياً بالصورة الكافية، وعما إذا كانت قادرة على المنافسة عالمياً سُجل عن الدكتورة الإماراتية «مشكان محمد العور» قولها: إن عملية التعليم من الممكن أن تؤدي إلى زيادة فعالية ودور ومساهمات المرأة في كل المجالات بما فيها المساهمة في دعم الاقتصاد الوطني، لأن الاقتصاد قائم على المعرفة، والمساهمة فيه تقع على عاتق الرجل والمرأة سواسية.
أما لماذا اخترنا هنا رد الدكتورة العور (بفتح العين والواو)، فلأنها كانت خير من تجيب عن السؤال بثقة كونها ليست نموذجاً للمرأة الإماراتية التي شغلت مناصب قيادية بنجاح وامتياز فحسب، وإنما أيضاً لكونها إحدى ثمار استثمار دولة الإمارات في البشر قبل الحجر.
وقد خسرتها بلادها بانتقالها إلى جوار ربها في السادس والعشرين من يوليو 2020، لكن اسمها سيظل محفوراً في وجدان مجتمعها كأم وأخت ومعلمة وعالمة ومسؤولة وخبيرة، فضلاً عن طيبتها ونبل أخلاقها وتواضعها وإخلاصها في خدمة وطنها، وبصماتها في العديد من المناصب التي شغلتها.
يشهد على علو كعبها في مجال تخصصها العلمي وحب الناس لها، أنه بمجرد انتشار خبر وفاتها سيطرت حالة من الحزن على مواطنين ومقيمين تعاملوا معها عن كثب، وخصوصاً من جانب طلبتها، حيث إنها درست مادة الكيمياء كأول معلمة إماراتية لهذه المادة العلمية المعقدة، قبل أن تخطو بثبات نحو مستقبل علمي باهر، ومناصب قيادية أكاديمية وإدارية رفيعة. كما سنتبين لاحقاً.
وفي إطار جهودها، التي لم تنقطع إلا بوفاتها، أشار مشروع كلمة للترجمة على حسابه بمنصة إكس إلى أن الفقيدة قدمت قبل وفاتها قراءة قصصية للمشروع ضمن مبادرة نقرأ للأطفال، احتفاء بانطلاق مسبار الأمل (مشروع الإمارات الفضائي لاستكشاف المريخ) في فبراير 2021م.
ولدت الدكتورة العور في حي الفهيدي بإمارة دبي ابنة لعائلة متوسطة الحال.
كانت عائلتها معروفة بحبها للعلم والتفوق والتميز، فتم غرس هذه المعاني في عقلها ووجدانها منذ الصغر، وهو ما ساعدها كثيراً وهي تخطو في مراحلها الدراسية المختلفة.
وفي مقابلة صحفية معها أخبرتنا أنها استقت من والدتها روح المثابرة والجدية في التحصيل العلمي، على الرغم من كونها سيدة غير متعلمة وتنتمي إلى الجيل القديم، قائلة: غرست في داخلي قيمة العلم، وكانت تشجعني دائماً منذ الصغر وكبر هذا الهاجس من المدرسة وزاده حبي الكبير لمادة الكيمياء من دون المواد الأخرى.
وبعد إتمامها للتعليم النظامي التحقت بكلية العلوم في جامعة الإمارات العربية المتحدة، حيث تخصصت في علمي الكيمياء والجيولوجيا، وهو الأمر الذي يشير إلى ذكائها وقبولها للتحديات العلمية المنطوية على مثل هذا التخصص.
وتخرجت حاملة شهادة البكالوريوس بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، لتصبح بذلك أول إماراتية تتخصص في الكيمياء، وتدرس هذه المادة لمواطناتها في المرحلة الثانوية.
بعد فترة قصيرة من التحاقها بسلك التعليم، تم ابتعاثها إلى المملكة المتحدة لإكمال تعليمها العالي على نفقة الدولة، فحصلت في عام 1996 على درجة الدكتوراه من جامعة ويلز في مجال الكيمياء الفيزيائية/ تخصص البوليمرات (مواد مصنوعة من سلاسل طويلة ومتكررة من الجزيئات، ولها خصائص فريدة واستخدامات عديدة، وأحدثت ثورة غيرت وجه العالم).
حيث ركزت في أبحاثها ودراساتها على التقنيات العلمية الحديثة والصور الفضائية، فقدمت مساهمات ومشاريع عدة نشرتْ مع العالم المصري المعروف في أبحاث الفضاء الدكتور فاروق الباز، ففي عام 2006م مثلاً، دعاها الدكتور الباز بوصفه مديراً لمركز الاستشعار عن بعد لتأليف فصل بعنوان أمن البيئات الحضرية باستخدام الاستشعار عن بعد، ضمن فصول كتابه الموسوم الاستشعار عن بعد والتقاط الصور الرقمية وذلك لاستخدامه من قبل الجامعات الأمريكية، كما أنها حازت شهادة رسمية من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لزرع اسمها في كوكب المريخ، ودعيت لتقييم مشروع صناعي عالمي خاص بالإطارات من قبل المجلس العالمي للأعمال من أجل التنمية المستدامة (WBCST) بمدينة بوسطن الأمريكية.
تحدثت المرحومة العور للصحافة عن فترة تحضيرها لدرجة الدكتوراه فقالت: خلاصة دراستي انصبت بشكل مباشر على استنباط الحلول للمشكلات وتقديم المقترحات للوصول لنتيجة ما، وبالإمكان تطبيق هذا في المنزل أو العمل، وأضافت: عندما درست الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية في بريطانيا اكتسبت مهارات عدة تدخل في مجالات الحياة الشخصية والعملية، وأستطيع تشبيه الدكتوراه برخصة قيادة المركبة التي تطلق العنان للشخص بالتوجه حسب خياراته وأسلوبه في القيادة وينطبق هذا على مفهوم القيادة العلمية وإلى أين مسار الدرجات العليا، فكلها تعتمد على مهارات التطبيق والإصرار على التطوير ومن يحيد عن هذا الطريق يدخل في عشوائية الخيارات.
وعن التحديات التي واجهتها في تلك المرحلة قالت ما مفاده أنها كانت الطالبة العربية الوحيدة في تخصصها، وكان لزاماً عليها أن تنقل صورة صادقة عن الفتاة الإماراتية والعربية لجهة التزامها وثقافتها وقبولها للتحديات التي كان من بينها الاعتماد على نفسها في تشغيل واستخدام المختبرات دون معين لعدم وجود من يسمى بمساعد مختبر في التعليم العالي البريطاني.
بعد عودتها إلى وطنها من رحلتها العلمية في المملكة المتحدة، كأول سيدة إماراتية تحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، أولت العلم والبحث اهتماماً كبيراً في حياتها، على الرغم من انشغالها بأعباء مناصبها الحكومية ورعاية زوجها الدكتور صلاح القاسم المستشار الثقافي في هيئة الثقافة والفنون في دبي، وأبنائها الأربعة.
ومن ذلك أنها شاركت في إعداد المنهج الموحد للكيمياء على مستوى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ناهيك عن مشاركاتها في اجتماعات الاتحاد العام للكيميائيين العرب، واتحاد الكيميائيين الخليجي الذي قرر في مؤتمره الرابع المنعقد في الرياض في يوليو 2024 إطلاق جائزة تحمل اسم الفقيدة (جائزة مشكان العور للكيمياء).
شغلت العور العديد من المناصب بعد نيلها شهادة الدكتوراه، فكانت أول خبيرة كيميائية إماراتية في المختبر الجنائي التابع للقيادة العامة لشرطة دبي، وأول مديرة لمركز البحوث والدراسات بأكاديمية شرطة دبي، فمثلت شرطة دبي بهذه الصفة في العديد من المؤتمرات والمنتديات الشرطية على المستويات الدولية والعربية والإقليمية، بل ونالت في عام 1999 جائزة الأداء الحكومي فئة الموظفة الحكومية المتميزة عن عملها وأدائها المتميز في القطاع الشرطي والأمني، وفي عام 2006 مثلت منطقة الشرق الأوسط في اجتماع اللجنة البحثية الاستشارية التابعة للمؤسسة العالمية لقادة الشرطة (IACP).
وفي عام 2009 شاركت العور في المنتدى العالمي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي استضافته مدينة هانوي الفيتنامية، كمتحدث رئيس حول موضوع الاقتصاد الأخضر وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مجال البيئة والتنمية المستدامة، كونها من العلماء الذين ساهموا في الأبحاث الخاصة بحل مشكلة التلوث الناتجة عن مادة الرصاص في وقود السيارات.
تعتبر العور أن أحد أسرار نجاحها في التعليم وفي التوفيق بين الدراسة والعمل وإدارة الأسرة هو التعلم وفق نهج مدروس، والالتزام بالوقت والعمل، ونبذ العشوائية تماماً خلال العمل والدراسة. وتضيف إنها كلما حققت إنجازاً كانت تسأل نفسها وماذا بعد؟، بمعنى كيف أفيد وطني وكيف أنقل علمي للغير، إذ لا فائدة في حصد الشهادات والألقاب والجوائز إنْ لم تكن مقترنة بإنجاز عملي يضيف إلى رصيد الوطن، أو إبداع ينفع الناس، حسب قولها.
في 21 فبراير سنة 1998 أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، فكرة إنشاء مؤسسة زايد الدولية للبيئة، وحينما تم تشكيل مجلس لإدارة المؤسسة في العام التالي عُينت الدكتورة العور ضمن أعضاء مجلس الإدارة، ثم وقع الاختيار عليها لتشغل منصب أمين عام مؤسسة زايد الدولية للبيئة، ومنصب المسؤول الإداري عن حفل جائزة زايد الدولية للبيئة.
ومن المهام الأخرى التي شغلتها على مستوى دولة الإمارات: عضو اللجنة البيئية لمؤسسة حميد بن راشد النعيمي للتطوير والتنمية البشرية بعجمان، وعضو اللجنة العلمية لمؤتمر دبي العالمي للتصحر 2000 ومؤتمر دبي العالمي لإدارة الموارد المائية 2002، ومدير تحرير مجلة البيئة والمجتمع (باللغة الإنجليزية)، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة البيئة والمجتمع (باللغة العربية).
لقد جمعت العور إلى جانب مسيرتها المحلية مسيرة دولية تمثلت في عملها كأستاذ زائر في مركز أبحاث الفضاء بجامعة بوسطن الأمريكية، وممثلة لدولة الإمارات في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO)، وممثلة للإمارات في شبكة المرأة العربية للعلوم والتكنولوجيا (ANWST)، ورئيسة وفد الإمارات إلى اجتماع اللجنة رفيعة المستوى للتعاون بين بلدان الجنوب في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وخبيرة في منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO).
لم تكتفِ منظمة اليونيسكو باختيار الدكتورة العور لمنصب الرئيس المشارك للمسؤولية الاجتماعية في المجلس الدولي الاستشاري لتطوير الاستدامة في المنظمة، وإنما منحتها أيضاً خلال دورتها الأولى المنعقدة في هونغ كونغ في مارس 2018 جائزة المرأة القيادية في خدمة المجتمع، نظير مساهمتها في تحقيق أجندة الأمم المتحدة 2030 لأهداف التنمية المستدامة لخدمة المجتمع (وخصوصاً فئة الشباب والطلبة)، فأصبحت بذلك أول امرأة إماراتية وعربية تفوز بهذه الجائزة الدولية.
هذا علماً بأن جائزة المرأة القيادية هذه، من الجوائز الدولية الخاضعة لمعايير في الاختيار من قبل محكمين دوليين تعينهم اليونيسكو وجامعات وكليات عالمية معروفة.
في حوار صحفي أجري معها بمدينة أبوظبي في نوفمبر 2018 على هامش حضورها فعاليات المؤتمر الإقليمي الرابع لمجلس المرأة العربية تحدثت العور عن نفسها فقالت: لقد تشرفت بأن أكون من أوائل الباحثين المستشرفين للمستقبل، للسعي نحو تقديم حلول مبتكرة لبلوغ أهداف الريادة وصدارة الدولة للمؤشرات العالمية وضمان استدامة مواردها والتكيف مع المتغيرات واستباق تحديات المستقبل والارتقاء بالخدمات لمواكبة التطلعات، وبالأخص في قطاع الفضاء، وذلك بفضل فكر مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والذي كان قد افتتح في الثامن من نوفمبر عام 1975 المحطة الأرضية للاتصال بالأقمار الاصطناعية في منطقة جبل علي في دبي، مدشناً بذلك أولى خطوات الإمارات في قطاع الفضاء، لتنتقل الإمارات بعدها إلى مصاف أهم اللاعبين الرئيسين في قطاع الفضاء بأكثر من 9 أقمار اصطناعية.
وتشرفت كذلك بأن أكون أول رئيسة من شرطة دبي لمجلس الشرطة النسائي لخدمة المجتمع، ذلك المجلس الذي عمل على إبراز دور العنصر النسائي في شرطة دبي، وكذلك إشراك هذا العنصر القيادي مع فئات قيادية أخرى في المجتمع المدني وذلك من أجل زيادة الروابط المجتمعية والثقافية والفكرية والخدمية، بل وأطلق مبادرات ريادية إبداعية توعوية، كان آخرها مبادرة (أمة تقرأ وتسرد)، التي ساهمتْ فيها مدارس وجامعات وجهات حكومية وخاصة عديدة.
ومن خلال عملي في مركز البحوث والدراسات بأكاديمية شرطة دبي فقد تشرفت بأن أقدم مبادرات بحثية ابتكارية ريادية ذكية كان أحدثها منصة زايد المعرفية Zayed knowledge Platform لتواكب تلك المنصة مشروع تحدي القراءة العربي، وتواكب كذلك الاستراتيجية الوطنية للابتكار، والحكومة الذكية، ومواكبة أهداف القيادة العامة لشرطة دبي ولتتفاعل كلها مع المبادرة التي أطلقها المغفور له الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بأن يكون عام 2018 عام زايد.
وفي رثاء الفقيدة كتب الشاعر السوري الدكتور أكرم جميل قنبس قصيدة بعنوان شمس الكيمياء، من أبياتها:
مشكان بدر للعلوم وللعلا
ولواؤها علما ونورا قد شدا
قد شيدتْ للكيمياء معالمـــــا
ورثتْ بها الأجيال مكرمة الهدى
هي أول الإماراتيات تخصصا
بالكيميا.. وعانقتْ فيها المدى
وبها تقلدت المناصب رفعـــة
ولتاجها علم الحياة تعسجدا
إنْ كان سهم الموت أرداها فما
مات الذي جعل المكارم موردا
الكيمياء بها ستبقى منهـــــلا
للظامئين الوارثين بها الندى
فعليها من رحمات ربي كُلما
صلوا على المبعوث فينا أحمدا