رغم أن الألمان كانوا رواد فكرة التأمينات الاجتماعية منذ عام 1889، إلا أن شبح التقاعد بات يؤرقهم اليوم. إذ لا يبدو أن «إرث بسمارك»، عراب نظام التقاعد في ألمانيا، قد أفضى إلى حياة أفضل..
ففي استطلاع حديث نشرته وكالة الأنباء الألمانية، سُئل العاملون: هل يكفي الراتب التقاعدي القانوني للحفاظ على مستوى المعيشة في سن الشيخوخة؟ أجاب نحو ثلاثة أرباعهم بالنفي!
كانت فكرة «بسمارك» تدور حول وضع نظام فريد للعمال والموظفين، يضمن حياة كريمة لمن أفنوا زهرة شبابهم في المعامل والمصانع التي جعلت ألمانيا تتبوأ مكانة مرموقة في الصناعة..
إذ كان اقتصادها في مطلع القرن الماضي، يتقدم على كل بلدان العالم، بل صار مصطلح ماكينة العالم، إشارة رمزية إلى جودة ما يصنعه الإنسان الألماني.
وقد نجح بسمارك في وضع نظام تأمين يغطي العجز، ويمنح مزايا اجتماعية وصحية.. ووفّق في إيجاد طريقة مبتكرة لتمويل مشروعه من استقطاعات إلزامية من رواتب الموظفين وأرباب العمل.. هذه الفكرة الرائدة، نالت إعجاب الأمريكيين، وقد قرأت ذلك في موقع الضمان الاجتماعي (SSA)، حيث ذُكر أنهم قد حذوا حذو الألمان في تأمين تقاعد المواطنين في الولايات المتحدة.
قد تبدو الفكرة بديهية في عصرنا، لكنها لم تكن كذلك حينها. ذكر نحو نصف الألمان المشاركين 54 %، استعدادهم للعمل بعد سن التقاعد القانوني، بدوام جزئي حتى سن السبعين. وأكد نحو خمسهم 20 %، أنهم لن يستمروا في عناء العمل، إذا ما استطاعوا تأمين دخل مالي أعلى.
ورفض نحو ثلثهم العمل لفترات زمنية أطول في سن الشيخوخة. ورغم ذلك، ما زالت هناك عوائق تحاول الحكومة الألمانية إزاحتها، لتذليل الصعاب أمام الراغبين في مواصلة العمل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يشير بوضوح إلى أن مبالغ التقاعد لم تعد كافية، حتى في البلد الذي كان رائداً في خدمات التأمينات الاجتماعية.
وهذا يحدث في بلدان عديدة، إذ مع تسارع حمى التضخم في الأسعار، لم يعد في مقدور الناس الاعتماد على الراتب التقاعدي وحده.. وهذا ما يحتم ضرورة وضع تشريعات أو قرارات وزارية تسهل إيجاد خيارات استقطاع مبالغ تكميلية أكبر للراغبين.
بحيث توضع في صندوق مختلف، يدار بالطريقة نفسها منخفضة المخاطر من قبل التأمينات الاجتماعية.. ويمكن أيضاً تشجيع مبادرات القطاع الخاص بإيجاد صناديق تقاعد خاصة، تضمن الاستدامة أو استعادة مدخرات الموظفين وقت التقاعد.
وقد اطلعت على أكثر من تجربة في شركات التأمين، لكن لسبب ما، لم يكتب لها الانتشار المأمول.. ربما يحتاج الأمر إلى حملات توعية مكثفة، وتشديد الرقابة عليها، حتى لا تغامر بأموال المتقاعدين، ثم تعلن إفلاسها بسبب عدم الالتزام بالشروط والقواعد المنظمة.
في دولة الكويت، تجربة رائدة في القطاع النفطي، إذ كان يُعطى للموظفين خيار استقطاع مبلغ إضافي تكميلي أعلى من الجهات الرسمية الأخرى، ثم، حسب ما روي لي، صار إلزامياً..
وبهذا، أصبح في مقدور من يعمل في القطاع النفطي أن يتقاضى راتباً تقاعدياً مرتفعاً، يتجاوز سقف 2700 دينار كويتي تقريباً، وقد يلامس مبلغ 3400 دينار كويتي شهرياً..
وهو مبلغ كبير بمقاييس صناديق التقاعد حول العالم. هذه التجربة، وغيرها من التجارب الناجحة، يمكن دراستها، والاستفادة من مميزاتها وعيوبها، لتقديم خيارات تناسب العقود المقبلة، التي سوف يلتهم التضخم فيها جل المعاش التقاعدي.
كما يمكن الاستفادة من أفضل أنظمة التقاعد العالمية، مثل آيسلندا وهولندا والدنمارك، التي أشار مؤشر المعاشات التقاعدية العالمي ميرسر CFA لعام 2022، إلى أنها تتربع على قائمة البلدان التي نالت تصنيف A، الأفضل في مجال أنظمة التقاعد.
علماً بأن أفضل أنظمة التقاعد، ليست تلك التي تعطي بالضرورة راتباً مرتفعاً، بل التي تتمتع بالاستدامة، بصرف النظر عن الضغوط الديموغرافية والاقتصادية، وتتحلى بالنزاهة والشفافية.
ووجود مزيج من الأنظمة الحكومية والخاصة التي تقدم دعماً متوازناً للمتقاعدين.. فما فائدة أن ننعم بنظام تقاعدي يدر رواتب وفيرة، لكنه يتعرض لمخاطر جمة، تحول دون استمراريته للأجيال المقبلة؟.