فالسردية الكبرى التي ترويها أمريكا عن نفسها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة مركزية عرفت «بالحلم الأمريكي». فلأن الحرية والفردية في القلب من «القيم السياسية الأمريكية»، هناك «فرص لا نهائية» متاحة لكل من تطأ قدمه «أرض الأحلام».
فهو قادر على تحقيق أي شيء تصبو إليه نفسه، من الثروة والنجاح، إلى تحقيق السعادة له ولذويه، بشرط واحد فقط، هو الجهد الشخصي والعمل الشاق والمثابر. وهما وحدهما السبيل لصعود السلم الاجتماعي دون سقف، وتحقيق كل الأحلام، بغض النظر عن الدين والعرق وبلد النشأة.
وأمريكا، وفق هذه السردية، «بوتقة» تصهر كل القادمين إليها، فيذوبون في «الكل» الأمريكي، ما يصنع «الاستثنائية» الأمريكية. فالكل يعمل عملاً شاقاً ومنجزاً، يحقق الرخاء والتقدم للمجتمع.
ومروراً بنقض المعاهدات مع ممالك السكان الأصليين، ووصولاً للتمييز ضد المهاجرين الإيرلنديين والألمان والإيطاليين والصينيين واليابانيين، فإن التعبير لاقى رواجاً كبيراً.
وباتت تستخدمه الدبلوماسية العامة الأمريكية لعقود طويلة. فبالمنطق المادي أو البراجماتي، كان لأمريكا مصلحة في الترويج له، إذ ظل المهاجرون يمثلون العقول والسواعد التي أسهمت، ولا تزال تسهم، في النهضة بشتى المجالات.
وقد لعب التغير في التركيبة السكانية للولايات المتحدة، دوراً محورياً في إحياء النعرات العنصرية، التي لم تختفِ يوماً، وإنما ظلت تحت السطح. وبات الخطاب السياسي للعنصرية يستخدم مفردات شفرية «كالقانون والنظام العام»، ومكافحة «الجريمة والمخدرات»، ومحاربة عابري الحدود «بطرق غير مشروعة».
بينما الموضوع الجوهري، هو لون بشرة المهاجرين الجدد! ورغم أن الولايات المتحدة تعاني نقصاً حاداً في العمالة في قطاعات حيوية، فإن الهجرة يتم تصويرها اليوم باعتبارها «سيلاً» من البشر «يسرقون» الوظائف من الأمريكيين.
وترحيل المهاجرين لم يقتصر بالمناسبة على الجمهوريين ولا على ترامب. فهو مشروع تبنته أمريكا منذ عهد أوباما، الذي أطلق عليه المدافعون عن المهاجرين «القائد الأعلى للترحيل»، بدلاً من «القائد الأعلى للقوات المسلحة»، لأنه قام بترحيل 3 ملايين مهاجر!
بينما لا تطال ولايات حدودية أغلبية أصواتها تذهب للجمهوريين. وتتزامن تلك الوحشية مع الجانب الثاني، وهو اختراع برنامج يعرف «بالهجرة الطوعية»، أي تشجيع الهجرة العكسية مقابل حفنة من الدولارات.
ولا طوعية في إجبار المهاجرين على الاختيار بين أمرين، كلاهما مر، إما حفنة الدولارات أو الاعتقال والترحيل القسري لدولة لا يعرفها! أما الجانب الثالث، الذي لا يقل أهمية، فهو القصف المنظم للمؤسسات الأكاديمية الأمريكية التي ظلت دوماً تقوم على اجتذاب العقول الأجنبية والاستثمار فيها، من أجل خدمة التقدم الأمريكي في شتى المجالات. باختصار، لم تعد أمريكا معنية حتى بالتظاهر بأن هناك ما يسمى «الحلم الأمريكي»!