تتواتر الأخبار القادمة من قطاع غزة والضفة الغربية لتعلن عن عشرات الضحايا يومياً، وعن دمار شامل طال كل مناحي الحياة، إضافة إلى الهجوم الهمجي، الذي لا ينقطع.

والذي يمارسه المستوطنون في الضفة الغربية، ويتم كل ذلك في ضوء البدء بعمل عسكري كبير شمال وشرق قطاع غزة، بعد أن طالبت القوات الإسرائيلية مجدداً السكان بالرحيل، وإخلاء المنطقة تحضيراً لهذا الهجوم.

ويبدو أن المجتمع الدولي لا يملك أي أدوات لردع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، ومنعه من تنفيذ برامجه المعلنة والخفية، والتي أضحى لا جدال في كونها تشمل الترحيل القسري لسكان القطاع، وإعادة احتلاله بالكامل والقبر النهائي لاتفاقية السلام لسنة 1993، التي وضعت الأسس الأولى لدولة فلسطينية مستقبلية، من خلال مرحلة «أريحا - غزة أولاً».

وأكد وزير الخارجية الفرنسي نهاية الأسبوع الماضي أنه «من غير المعقول أن تسقط 500 ضحية، وأكثر من 4000 جريح خلال شهر واحد في غزة»، مضيفاً أن ذلك «يبعث على الخجل والإدانة».

ولأن الوزير الفرنسي اختزل أساساً، فيما يبدو، المسألة الفلسطينية في جوانبها الإنسانية، فقد جاءت خالية من أفق سياسي حقيقي يفتح الباب أمام الفلسطينيين لبناء دولتهم المستقلة، التي أقرتها المواثيق والشرائع الدولية.

وهذا الغموض والتردد الذي طبع مواقف فرنسا هو ذاته، الذي طغى لدى جل دول الغرب الليبرالي، الذي يرتب أولويات مواقفه وسياساته في المنطقة على أساس يضع مسألة الرهائن وأمن إسرائيل في المقدمة، ثم تأتي المسألة الإنسانية.

وتحتل الدولة الفلسطينية نهاية قائمة الأهداف، وهي دولة تحيط بها «هالة» من الشروط ليس أقلها أن تكون منزوعة السلاح، وضامنة لأمن إسرائيل.

وهذا التمزق الفرنسي والغربي يترجم حالة العجز التام أمام كل الطلبات الفلسطينية المشروعة، وهو ما يجعل التركيز على المسائل الإنسانية من باب التورية عن الضعف المريب والفادح أمام حكومة ناتنياهو المتطرفة.

ولحفظ ماء الوجه أمام رأي عام غربي، ما انفك يعاين ويقف على التناقض الكبير بين القيم الإنسانية الليبرالية المعلنة، وممارسات الدول التي تكرس القهر والاستبداد والاحتلال.

وإذا كانت المسائل الإنسانية مهمة لجهة ما يعانيه الشعب الفلسطيني من عمليات تقتيل وتجويع منهجية فإنه لا ينبغي نسيان أن ما يعيشه الشعب الفلسطينيين من عذابات ومعاناة هو نتيجة لاستمرار احتلال يدوم منذ عقود.

ولا سبيل للقضاء على المعاناة الإنسانية اليومية بغير حل سياسي، يضمن حق الفلسطينيين في قيام دولتهم المستقلة والقابلة للحياة، وفي غياب ذلك لا يمكن ضمان الاستقرار الأمني لكل دول المنطقة وأساساً إسرائيل.

إن الأمن ينعدم إذا لم تنعم به كل شعوب المنطقة، وهذه الحقيقة البديهية وقف عليها جل دول العالم، وكل دول المنطقة باستثناء إسرائيل، التي تعتبر أن الحروب والنزاعات الدائمة هي سبيلها الوحيد للمحافظة على تماسكها الداخلي واستمرارها، وهو ما دفعها ويدفعها إلى التوجس من سلك طريق السلام والمراهنة في مقابل ذلك على الاستثمار في الحروب والنزاعات.

وإن هذا السلوك الإسرائيلي المعادي لمنطق السلام، وهذا العجز الدولي أمام الصلف، الذي طبع حكومة ناتنياهو المتطرفة دفع الفلسطينيين وخصوصاً فلسطينيي غزة إلى حالة من اليأس الشديد الذي لا قاع له، ما دفع فتاة فلسطينية إلى القول، إن «سبيل النجاة الوحيد أمامنا هو سقوط قنبلة نووية تبيدنا عن آخرنا حتى نرتاح من هذه المعاناة».

كانت البنت الفلسطينية تتحدث في شريط وثائقي يصور أهوال الأوضاع في غزة، وبث مساء السبت الماضي على إحدى القنوات الفرنسية.

إن المعاناة إذا بلغت حدودها القصوى تتحول إلى قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أي لحظة، وإن العجز في وضع حد لهذه المعاناة يطرح أكثر من سؤال حول إنسانية الإنسان أينما كان، وإن غياب أي أفق أمام صاحب المعاناة يولد أخطر أشكال اليأس، الذي لا يفرق بين القتل والانتحار.