صحيح أنني لم أتمكن الأسبوع الماضي من حضور اللقاء، الذي ضم وزارة الثقافة وأعضاء اللجنة الفنية لخبراء التراث غير المادي مع إمارة الفجيرة، لتسجيل عنصر «المالح الإماراتي» في سجلات المنظمة، ولكني كنت حريصة «جداً» على معرفة ومناقشة كل ما جرى في الاجتماع، والحصول على تقرير مفصل حول ذلك، وتصادف أيضاً نقاشات أخرى مع اللجنة والوزارة حول الحرف الشعبية «التقليدية» الإماراتية، تتعلق بتوزيعها الديموغرافي، وعدد الحرف الرئيسية والفرعية، وطرق تسجيلها وتوثيقها، وقد أشرت سابقاً إلى أن الوزارة تعمل جاهدة على وضع سياسات عامة استراتيجية لهذه الرموز التراثية العريقة، وكنت وما زلت أدعو أن يكون لنا «يونيسكو» خاص بنا، ولا نضطر كل عام لتسجيل عنصر أو عنصرين، سواء من خلال تفعيل وتسريع العمل في السجل الوطني أو إيجاد هيئة خاصة بالتراث، تقوم بتنفيذ هذه المهمة العظيمة.
إن تراثنا الثقافي غير المادي لا يُقاس بقيمته الاقتصادية أو وظيفته الاجتماعية فحسب، بل بقدرته على الصمود والانتقال، وبحجم ما يحمله من تجليات الهوية العميقة ومخزون الذاكرة الجمعية، ومن هذا المنظور يبرز «المالح» كونه أحد أبرز شواهد التراث البحري والغذائي منذ قرون، بل بقي حياً في الأسواق والمطابخ والاحتفالات الشعبية، وفي الذاكرة الشفهية والوجدان الجمعي.
تسجيل عنصر «المالح» ضمن قوائم اليونيسكو، مطلب له ما يبرره من تاريخ طويل في ممارسة الحرفة، وارتباطها ببنية العيش التقليدي، ونمط الاستهلاك الغذائي المحلي، وتكاملها مع شبكة الحرف المساندة، من صناعة الجرار الفخارية إلى صيد السمك وتجفيفه، وتوزيعه وتخزينه. إنها منظومة معرفية كاملة، تستحق أن يتم توثيقها وتسجيلها.
من يزور أسواق دبا الحصن، أو يتجول في أزقة خورفكان القديمة، أو يشارك في مهرجان «المالح والصيد البحري»، سيشعر بأن هذه الحرفة، رغم بساطتها، تحيا بتفاصيل دقيقة، وبطقوس خاصة، تشرف عليها نساء خبيرات ورجال ورثوا سر المهنة عن آبائهم، وتنتهي بمنتج غذائي، يحمل نكهة البحر وعبق الأرض وحرارة الشمس.
وبالنظر إلى ملف المالح فإن أهمية إدراجه لا تتوقف عند حد تسجيل عنصر واحد، بل هي بداية لتوسيع الأفق نحو حزمة من الحرف الغذائية المرتبطة بالذاكرة الإماراتية، مثل صناعة السمن التقليدي، تجفيف التمور، تحضير «الفقاع» و«الزليبية»، وصناعة الدبس، وهي حرف غذائية ذات بعد اقتصادي ومعرفي أصيل.
تحديات الحرف التقليدية تتمثل في الحاجة الماسة إلى رؤية شاملة لتصنيف هذه الحرف، وفق خرائطها المجالية والاجتماعية.
لقد وجدت خلال بحث استمر أكثر من 40 عاماً أن الإمارات تحتفظ بما يزيد على 300 حرفة رئيسية وفرعية، تتوزع بين البحر والجبل، وبين البادية والساحل، ولكل منها لغتها وتقنيتها ومناسباتها.
من «المطوع» في التعليم الشعبي إلى «النهّام» في البحر، ومن «الزري» في تزيين الملابس النسائية إلى «المبخرة»، التي تستخدم في الطقوس والمجالس.
أدعو إلى الانتقال الفوري والعاجل من ثقافة التوثيق البطيء إلى استراتيجية وطنية متكاملة للتسجيل والحماية.
لقد حققنا في السنوات الماضية إنجازات مهمة بتسجيل عناصر مثل «العيالة»، «القهوة»، و«المجالس»، ولكن الطموح أكبر، والطريق يتطلب أدوات مؤسسية جديدة.
دعونا نتصور «هيئة وطنية للتراث غير المادي» تُعنى حصرياً بهذا الجانب، توثق، تصنف، تسجل، وتفعّل، بحيث لا يبقى تراثنا حبيس المناسبات.
الكثير من الحرف المعرضة للاندثار لا تزال حية في ذاكرة كبار السن، كما أظهرت مقابلات مع شخصيات إماراتية يمتلكون خبرات عظيمة في مجال الحرف، كان بعضهم في الاجتماع الذي عقد قبل شهر تقريباً في رواق عوشة الثقافي، هؤلاء وغيرهم يشكلون ما يمكن تسميته «كنوزاً بشرية حية»، وينبغي الإسراع في تسجيل شهاداتهم.
إن تسجيل «المالح» هو دعوة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع الحرف كافة، فـ«المالح» يقودنا إلى «السح» (دهس الرطب)، و«اليراب»، و«الفالوق»، و«الدخون»، و«المشخال»، و«المطوع»، و«البيطار العشبي»، و«المزيّن»، و«المُبخِّر»، وغيرها من الحرف.