تهديدات وجودية بلا حدود

خلال تفقده موقع سقوط صاروخ إيراني في محلة بات يام جنوبي تل أبيب، أشار بنيامين نتانياهو إلى أن إيران لو امتلكت 20 ألف صاروخ كالتي قصفت هذه المحلة، لشكلت تهديداً وجوديا لنا؛.

بذلك أضاف رئيس وزراء إسرائيل البرنامج الصاروخي الإيراني، وبالتداعي ما على شاكلته من أنماط التسلح في الرحاب الشرق أوسطية الفسيحة، إلى قائمة التهديدات الوجودية لدولته.

نقصد بهذه القائمة الافتراضية، المفتوحة والقابلة للتمدد، الحقائق المنظورة المتعينة أو المستجدات المحتملة، التي طالما جادل المسؤولون الإسرائيليون بأن مجرد إطلالها أو انبعاثها داخل دولتهم أو من حولها ينذرهم بخطر الفناء والاندثار في أجل أو آخر.

ووفقاً لما يلوكه هؤلاء في خطاباتهم، بات من المؤكد أن توجه أي كيان سياسي في جوارهم الإقليمي اللصيق أو الأبعد نسبياً نحو الاستحواذ على مشروع نووي، يقع في طليعة ما يثير لديهم حساسية هذا الخطر.

وهم لا يكترثون كثيراً في سياق هذا التصور بما إن كان هذا المشروع ينطلق على أرضية سلمية مقوننة ويخضع للرقابة الدولية أو غير ذلك؛ هذا لأنهم في تقديرنا يقيسون ما يجري من حولهم ويقيمونه انطلاقاً من سلوكهم الغامض والمنحرف هم أنفسهم مع هذه الأحاديث الموضوعة.

والعبرة هنا أنهم يحتاطون لإمكانية توظيف التقنيات النووية في التغطية على تصنيع منتجات ذات مكون عسكري، تماماً مثلما فعلوا مع مشروعهم الذي بدأوه عام 1949، أي منذ الساعة التالية لإعلان دولتهم، ويقال اليوم إنه أوصلهم لامتلاك أكثر من مئتي قنبلة نووية. لإسرائيل عموماً تاريخ ممتد في مطاردة المعارف النووية من الأصل عند العرب.

وصولاً إلى اغتيال بعض القائمين عليها، وقصف البني التحتية للمشروعات والمنشآت ذات الصلة، بيد أن هذه المطاردة الشهيرة ليست سوى نموذج واحد لأصداء وسواس الخطر الوجودي الذي يغلف تصرفات هذه الدولة وسياساتها في مجرى العلاقة مع محيطها الإقليمي.

فالذريعة المتعلقة بهذا الخطر نلقاها مبثوثة ومتداولة بفجاجة بين يدي الكثير من المعالجات الإسرائيلية لأبعاد هذه العلاقة، سواء كانت محفوفة بالصراع أو بالأطر السلمية ومفردات التطبيع، فعودة اللاجئين الفلسطينيين تطبيقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بالخصوص، تعرض إسرائيل لتهديد وجودي، إذ سيتم إغراقها ديموغرافياً بملايين العائدين.

ومثل ذلك يقال عن تطور أوضاع فلسطينيي 1948، الذين إن حصلوا على كامل حقوق المواطنة غيروا معادلات الطبيعة اليهودية المهيمنة على الدولة. ويقال عن حل الدولتين، الذي يعيد اسم فلسطين وهويتها التاريخية إلى صلب الخريطتين الإقليمية والدولية.

ويهدم صدقية رواية «أرض الميعاد» التي أشيع أنها أرض بلا شعب ردت لشعب بلا أرض. ويقال عن حل الدولة الواحدة، الذي سيمنح الفلسطينيين فرصة الاستيلاء على مصير الدولة بالوسائل الديمقراطية في أجل غير بعيد، بالنظر إلى تزايدهم السكاني وخصوبة أرحامهم الفائضة.

ويقال إذا ما شح سيل هجرة يهود الخارج إلى إسرائيل، مثلما يقال إذا ما ارتفع منسوب ما يعرف بالهجرة العكسية إلى الخارج. ويقال بإلحاح كبير إذا ما التقى العرب كلهم أو بعضهم على كلمة وحدوية سواء بأي معنى أو مفهوم، لا سيما إن جاء هذا المتغير الفارق مشفوعاً بتدابير سياسية أو عسكرية أو جيواستراتيجية مؤثرة في توازن القوى.

والحال كذلك، يصح الاعتقاد بأننا إزاء دولة تحسب كل صيحة عليها، بل تكاد ترى أن كل حراك داخلها أو حولها لا يصدر عن إرادتها يخفي وراءه تهديداً لها، الأمر الذي يشي بحالة مستعصية فريدة من الوسواس القهري والاضطراب النفسي الجماعي، التي تظهر آثارها في الترقب والتربص بكل صغيرة وكبيرة مما يدور في محيطها.

يعتقد فقهاء الاجتماع السياسي الإسرائيلي أن هذه الحالة تجلب لدولتهم منافع كثيرة، من قبيل ترسيخ مفهوم المظلومية والاضطهاد الذي يستقطب التعاطف والدعم الخارجي من جهة.

ويخدم من جهة أخرى عمليات الحشد والتعبئة والاستنفار على الصعيد الداخلي. وفي سياق النشوة بهذه الوصفة السحرية، يغيب عن هؤلاء الأبعدين أن الحياة الهانئة لا يمكن أن تتحقق لمجتمع يعيش طوال الوقت على صفيح ساخن، ينام قلقاً بنصف عين.

ويغيب عنهم أيضاً احتمال أن تفضي كثرة الحديث عن التهديدات الوجودية إلى عكس بعض المراد منها، كأن يعزف يهود العالم عن مغادرة مواطنهم إلى دولة مهجوسة، ولعلها مهووسة بالتهديدات من كل حدب وصوب، تسعى لتحقيق الأمن المطلق الذي يمثل أمنية مستحيلة لدى كل دول المعمورة.

إلى ذلك كله، من قال إن حديث التهديدات الوجودية الإسرائيلي لا يعزز معرفة الآخرين بنقاط ضعف هذه الدولة، وربما يسوقهم سوقاً إما إلى إتيانها وغشيانها من هذه النقاط، وإما إلى التحسب والفطنة تجاه سلوكياتها وسياساتها غير السوية تجاههم، المبنية على هذا الحديث المستفز.