فالمشهد لم يعد يُصوَّر ليفهم، بل ليستهلك، والذات لم تعد تتلقى، بل تنكسر تحت وطأة التعدد، شاشات مختلفة، تندس خلفها أفكار مختلفة، عبثية ومؤثرة، وأخرى مصممة بدقة، تبث معلومات، تخلق أيديولوجيا فكرية، تبرز أسماء وشخصيات تلوك السياسة، ويتفاخرون بأفكار «مُعلبة»، ويروجونها باسم المعرفة والحنكة الجيوساسية المصطنعة، يتكاثرون بنهم في أوج الأحداث السياسية المضطربة والحروب.
وينقسمون لأحزاب شغلها الشاغل التمجيد لفكرة أو دحض حقيقة أو ترويج كذبة أنيقة أو الاغتيال الناعم لرمز وطني بتراشق التهم والافتراءات الباطلة، والمتلقي الآخر يجلس أمام هذه الشاشات، يجمع في قِربته المثقوبة أفكاراً هشة دون التأكد من صحتها ودقتها، وينجرُ خلف هتافات افتراضية، ويكون هوية متخبطة، وكأنهم يعكسون بدقة ما تحدث عنه فرناندو بيسوا حين قال: «
في داخلي عدد لا يُحصى من الأرواح، كل واحدة منها تفكر وتشعر»، هكذا صار الإنسان الحديث بلا كينونة واحدة، بل ذات متعددة، وكيان تُشكله الاحتمالات المتجاورة، التي لا تندمج ولا تُفصح، كما لو كانت مجرد واجهة لعرض الانفعالات، لا مركزاً لتجربتها..!
فالإنسان المكبل بالشاشات لا يعيش التجربة، بل يعيد تمثيلها، على نحو يُفرغها من أثرها، فلا نعيش الأحداث، بل نؤديها ونشاركها كأنها لا تخصنا، وهكذا تفقد الصورة وظيفتها الكاشفة، وتتحول إلى قناع جديد يمنع الوصول إلى جوهر الحقيقة.
ومع تراكم الأقنعة تضيع الذات الأصلية، وتُستبدل بصورة افتراضية قابلة للتعديل والإعجاب والحذف، وبهذا لا تُصبح الحرب حدثاً خارجياً، بل تجربة داخلية تعرّي هشاشة الذات، وتعيد تشكيلها لنُعرّف أنفسنا عبر خطابها، ونقيس وجودنا بمقاييسها.
وهل نعيد تعليب ما نتلقاه وننشره بصورة مشوهة؟ فالحقيقة أن أكثر من 63.9% من سكان الكرة الأرضية، وفق إحصاء حديث، يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، وينهلون منها الأخبار والمعلومات، وهنا نطرح تساؤلاً أخراً، ما أكثر ما يخيفنا اليوم حقاً، من يتلقى وعمره وعقيدته؟ أو كيف يتعامل مع هذا الكم من المعلومات؟
وما الذي يحكم هذا التلقي، وبأي قيم؟ ولكن في زمن تحكمه عقيدة الشاشات، لعل الخلاص يبدأ حين نمنح أنفسنا الغفران من إدمان التعلق الرقمي، ومن استهلاك المعلومة السهلة والسطحية دون تفكير، ونستعيد قدرتنا على التأمل والتوازن بعيداً عن الضجيج الافتراضي..!