التراث والسلام العالمي

حين نتأمل ما يحدث حالياً في الواقع الجيوسياسي، نُدرك أن الأرض قد تحوّلت إلى مختبر حي تتقاطع فيه الرموز، والهويات، والتواريخ المتنافسة. مشاهد تعج بالمواجهات العسكرية، كما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، في اليمن والسودان، في الشرق الأوسط، لكنها أيضاً، من وجهة نظر فلسفية علمية، هي في الأصل، عبارة عن مواجهة تأويلات: من يروي الحكاية؟ من يملك الرمز؟ ومن يُحدد المعنى؟ في هذه المشاهد حالياً، حول العالم، نجد مواجهات شرسة بين ثقافات مختلفة، صراعات تحمل في باطنها أصول خلافات قديمة متجذرة في قلب التاريخ، تفوق ما يمكن أن نراه على السطح السياسي، وفي ظل غياب أي حوارات ثقافية عميقة، لا يمكن صياغة سلامٍ يقوم على إسكات الآخر، بل يمكن استحضار العناصر المشتركة التي لا تختزل في المصالح أو في الجغرافيا، بل تتجلى في الذاكرة الجمعية الثقافية الإنسانية.

التراث، بحسب «سميث وواترتون»، هو أفقٌ للحاضر، ورهان للمستقبل. وحين يُفعّل التراث بشكل علمي وعملي فعلي، يتحوّل إلى أداة تصالحية تحمل بذور السلام. وقد بدا لي أن النزاعات الثقافية الكبرى حول العالم، وكما أثبت التاريخ، لا يمكن حلها عبر القوة العسكرية والمواجهات الدامية، بل عبر إتاحة المجال للذاكرة كي تعبّر عن نفسها، وللرموز أن تلتقي، فحين تُروى الحكايات، يُفتح أفق ثالث، يتجاوز الثنائية المغلقة بين القوة والمظلومية.

دراسة منظمة اليونسكو حول الثقافة والمستقبل الحضري، تتوافق مع وجهة نظري، فهي تؤكد أن التراث الثقافي ركيزة للاستدامة الاجتماعية. وأن المدن التي تعيد إحياء ذاكرتها قد تخلق شروطاً جديدة للعيش المشترك، تقوم على الاعتراف، والتمكين، وإعادة اكتشاف الحوار. فالسلام الحقيقي هو حضورٌ مستمر للمعنى، يحدث حين يشعر الجميع بأنهم جزءٌ من قصة واحدة، وإن اختلفت الأسماء.

الدبلوماسية الشعبية، كما رأينا في تجارب متعددة، تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء الثقة. فحين يُحتفى بالتراث العالمي الإنساني، في المهرجانات، حين يُدرّس في المدارس، حين يُوثّق في أفلام ووثائق ومعارض، يتحوّل إلى لغة جديدة تتجاوز الخنادق السياسية والعسكرية.

وكذلك في جميع لقاءات الثقافات، تُستعاد الإنسانية في أوضح صورها. وتتحول الحكايات التي كانت سبباً للاشتباك، إلى منصات تفاهم. وكما يقول «إسار» في كتابه عن الدبلوماسية الثقافية، فإن أقوى أشكال الحوار قد تكون تلك التي لا تُقال بالكلمات، بل تُنقل عبر طقس أو نقش أو رائحة بخور.

دائماً، تتقدم الإمارات بصفتها بيئة عالمية للحوار الحضاري. الإمارات تعمل جاهدة، عبر جميع أدواتها الدبلوماسية والسياسية والثقافية والاجتماعية على تفكيك جذور النزاعات عبر تأسيس مشاريع تراثية تربط المجتمعات بجذورها دون أن تعزلها عن بعضها.

وتحت قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، تجذّرت رؤية ثقافية ترى في السلام خياراً بنيوياً، وتتجلى رؤى سموه في المبادرات التي جمعت ثقافات مختلفة على طاولة واحدة، وفي المشروعات التي موّلت ترميم الكنائس والمساجد والمواقع الأثرية، من صربيا إلى العراق، وأنتجت رؤى سموه خلايا عمل تقوم على تشكيل مفهوم الحماية الثقافية، كفعل تواصلي يعيد ربط الإنسان بتراثه، ويفتح هذا التراث ليكون مجالاً للحوار، ومنصات لإعادة إنتاج الهوية الوطنية بطريقة تفاعلية.

التراث المشترك يُمهّد الأرض لحلول ثقافية تعالج النزاعات الرمزية. فحين يلتقي أبناء الثقافتين المختلفتين في تأمل مشترك للزخارف، أو في إنشاد تراثي، أو حتى في حكاية شعبية تتشابه تفاصيلها رغم المسافة، ينشأ وعي جديد يتجاوز التقابل. وفي لحظة تاريخية دقيقة، يصبح من الضروري تحويل التوترات إلى فرص لإنتاج سرديات جامعة، تحترم الخصوصيات دون أن تؤجج الانقسامات.

المؤسسات الثقافية في الإمارات تعكس هذه الرؤية. المراكز، المتاحف، الجامعات، كلها تشتغل على تقديم التراث كقيمة حيوية قادرة على منح الناس أفقاً إنسانياً مشتركاً. ويتمثل التحدي الأكبر في تحويل هذه المبادرات من فعاليات إلى ثقافة دائمة، من احتفالات إلى آليات تربية وتشكيل وعي. التعليم، الفن، السياحة، الإعلام، كلها أدوات يجب أن تُسهم في تثبيت هذه الرؤية العميقة للتراث كمنصة للسلام.

هذا بالضبط ما تستثمر فيه الإمارات: تحويل الذاكرة إلى مستقبل. الاحتفاء بالتراث يأتي بدافع بناء السلام. السلام الذي ندرك تعقيداته، ونحترم رواياته، ونقدمه كجزء من سردية كبرى تتسع للجميع. حين يجتمع أطفال من جنسيات متعددة داخل متحف، أو حين يشارك مثقفون من دول متنازعة في ندوة عن الخط العربي أو الموسيقى الصوفية، تُولد مساحات جديدة تعمل كأدوات حقيقية في صنع السلام.