أحزان حزيران

الحروب تغير مسارات التاريخ للشعوب والأمم. حروب أوروبا في الأزمنة الغابرة، غيرت مسارات التاريخ، حيث تحولات الكيانات السياسية الصغيرة والكبيرة في أوروبا، إلى دول تتطابق مع أمة في حدود سيادية معينة. صلحُ وستڤاليا، كان بسبب الحروب المتعددة بين مكونات الكيانات السياسية، ملكيات وإمبراطوريات ودول المدن.

ولا شك أن الصلح بين الدول، والذي مهّد لظهور الدول الحديثة، حافظ على النظام الأوروبي، ولكن الحربين العالميتين، الأولى والثانية، أسقطت دولاً وإمبراطوريات، بل أحدثت تغيرات اجتماعية داخلية في بعض الدول، وحولت النظام الدولي تحويلاً كبيراً.

حرب يونيو أو حزيران، والتي مرت ذكراها الثامنة والخمسون منذ عدة أيام، أحدثت تغيرات كبيرة في المنطقة، وما زالت أثارها بادية للعيان. في غفلة من الزمن، استطاعت إسرائيل احتلال أراضي شاسعة أكبر من حجمها في أيام معدودات— سميت بحرب الأيام الستة، تندراً أو تشفياً.

في كتاب حديث عن هنري كيسنجر بعنوان «سيد اللعبة»، يقول الكاتب إن الرئيس المصري أنور السادات، عرض على وزير خارجية الولايات المتحدة في عام 1971، صلحاً مع إسرائيل، مقابل استعادة الأراضي التي احتلتها في 1967.

كان رد كيسنجر مُسْتَهْزئاً بأن مطلب استرجاع كل الأراضي من إسرائيل، مطلب قائد منتصر في الحرب وليس مهزوماً. وكان رد إسرائيل مستنكفاً، عندما حاول السادات التواصل معهم عبر وسيط موالٍ لإسرائيل.

حينها اقتنع السادات بأن الطريق لسيناء، يمر عبر حرب أخرى. وحصلت حرب 1973، والتي حقق فيها الجيش المصري تقدماً في البداية، ولكن التدخل الأمريكي المساند لإسرائيل عبر الجسر الجوي لاستعادة الخسائر في العتاد، ومن خلال الاستطلاع الجوي، والذي كشف مواقع الجيش المصري وتحركاته لصالح إسرائيل، قلب الموازين.

وبعدها قبلت إسرائيل بمعادلة الأرض مقابل السلام. وكانت معاهدة كامب ديفيد 1978، واتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في 1979.

وفعلاً استرجعت مصر أراضيها المحتلة، بموجب اتفاقية السلام، ولكن بقية الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في 1967، ما زالت ترزح تحت الاحتلال.

وما زالت دموع حزيران تنسكب، بل تغمر المنطقة بمآسيها. منذ 1967، شهدت المنطقة حروباً وصولات وجولات بين العرب دول ومنظمات مع إسرائيل. كما أن المنطقة شهدت جولات من المحادثات لتحقيق السلام بين الدول العربية.

معظم الحروب لم تؤتِ أُكلَها بحل النزاع، كما أن معظم المحادثات لتحقيق سلام دائم بين الأطراف العربية والإسرائيلية، ظلت حبراً على ورق. كانت حرب أكتوبر بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.

غاية الحرب كانت استعادة الأراضي العربية المحتلة سنة 1967، لم تنجح في ذلك، رغم أن الجيش المصري والسوري تقدما في المعركة في البداية، إلا أن الظروف تغيرت. ولكن سمحت هذه الحرب بنافذة لحل سلمي بين مصر وإسرائيل، بعد أربع إلى ست سنوات.

يقول الرئيس كارتر إنه رعى الاتفاق بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد، لأن مصر هي القوة القادرة على الحرب، ولا يستطيع العرب خوض حرب دون مشاركة مصر.

بالطبع، لم يكن ذلك صحيحاً، وكشفت الأيام، وإلى حد اليوم، إمكانية الحرب بين العرب وإسرائيل.

وكل هذه المواجهات، بلا شك، نتيجة طبيعية لحرب يونيو 1967.

وقد جرب الفلسطينيون المفاوضات، بعد أعوام من الانتفاضة، وكان اتفاق أوسلو في 1993. كان الاتفاق يعد بدولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة.

وكانت هناك سلسلة من المفاوضات المضنية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وآخرها في كامب ديفيد في صيف 2000، برعاية مباشرة من الرئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون. ولكن دون جدوى. أحزان حزيران مستمرة ليومنا هذا، مسطرة، ليست بالدموع فحسب، بل بالدماء. محو دموع حزيران، هو المدخل إلى حقن الدماء في المنطقة.