كائن سائل..!

في زمن التنقل المستمر لم يعد الانتماء تجربة مستقرة، بل أصبح حالة مؤقتة تتشكل وتتلاشى مع كل انتقال جديد، لم نعد نرتبط بالمكان، ولا بالجيرة، ولا حتى بالذاكرة المكانية، نعيش اليوم في مدن تشبه المطارات، مرور سريع، لا وجوه مألوفة، لا رائحة خبز، لا حكايات تروى على العتبات، حتى البيت لم يعد بيتاً بالمعنى الوجودي، بل عقد إيجار، أو محطة مؤقتة في خريطة مهنية لا تهدأ.

هذا الانفصال المكاني لا يعني فقط تغير العناوين، بل مساً عميقاً بالبنية النفسية للفرد، وهذا يذكرني بما كتبه إدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان» عن الشعور المزمن بأنه لا ينتمي لأي مكان، رغم تعدد الأمكنة في حياته، لم يكن المنفى عنده مجرد اغتراب جغرافي بل تمزقاً في السرد الداخلي للهوية، يقول: «أن تكون خارج المكان هو أن تحمل الأمكنة فيك دون أن تجد لك فيها مرسى»،

لكن هذا «الخارج» لم يعد استثناء، بل تحول إلى وضعية عامة في عالم يُحتفى فيه بالحركة بدل الاستقرار، ويظهر ذلك بوضوح في بعض بيئات العمل الحديثة، التي كانت تشكل في السابق مساحة للانغراس التدريجي، حيث تنمو علاقات الزمالة ويتكون شعور بالانتماء مع مرور الوقت، أما اليوم فقد أصبح ينظر لهذا النوع من الارتباط كونه عبئاً أو كلفة، في ظل نظام إنتاجي يفضل السرعة والمرونة على الاستمرارية، وهنا تختصر الهوية في سطر تعريفي، وتختزل التجربة في سيرة ذاتية، بينما تختزن الذاكرة في ملفات رقمية، لا تحكي شيئاً عن الجذور، هكذا تتحول بعض بيئات العمل إلى أماكن «تمر عبرنا» بدل أن نمر نحن فيها..!

الإنسان المعاصر، كما وصفه عالم الاجتماع زيغمونت باومان، «كائن سائل» لا يملك زمناً كافياً ليجف، أو ليترك أثراً، تتسرب حياته بين أصابع التبدل، وتتبخر علاقاته في حرارة السرعة، لكن في غياب الانتماء، تصبح الذات غائمة: لا يعاد تذكرها، ولا يمكن تأويلها ضمن سياق، تفقد تتابعها الداخلي، وتعيش كونها مقطوعة غير مكتملة.

وفي ظل هذا التفتت تفقد الذاكرة مرجعها الأرضي، إذ لم تعد الذكرى ترتبط ببيت الطفولة، بل بصور محفوظة على السحابة، ذاكرة سريعة، محايدة، لا تترك أثراً حقيقياً في الروح، والأسوأ أن هذه القطيعة لم تعد تعرف كخسارة، بل كواقع حديث يحتفى به بوصفه «مرونة»..!

وعندما نقف بتريث لنعرف «المنفى» الذي طالما كان مشروطاً بفقدان جغرافي، إلا أنه اليوم أصبح شعوراً داخلياً تعيشه في وسط الزحام، حين لا يعود لك مكان مفهوم، ولا لغة تشبه صوتك، فنحن نتنقل أكثر، نُنشئ صداقات أسرع، نبدل مهناً وأمكنة، لكن شيئاً فينا يُصبح هشاً مع كل قطيعة جديدة، فالانتماء كما عرفه أمين معلوف، ليس هوية جاهزة نرتديها، بل نسيجاً هشاً من التراكمات والتجارب والاختيارات، وكل محاولة لاختصاره في انتماء واحد قد تحوله إلى عبء أو قيد، بل إلى ما سماه «هوية قاتلة»، وهي كما أفهمها في سياق حياتنا اليوم، ليس امتلاكاً لعنوان، بل القدرة على أن تروى قصتك ضمن سياق يفهمك، ولا يستهلكك، وهذا ما نفتقده اليوم، السرد الطويل والانغراس، والاستمرارية، تلك الثلاثية التي تعطي للحياة طابعها الساكن والعميق.

وأخيراً.. وليس آخراً، أن تكون كائناً سائلاً في عالم متسارع لا يعني أنك بلا جذور، بل يعني أن الجذور لم تعد تُغرس في الأرض، بل تحمل في الذاكرة... لكن، أي ذاكرة؟ تلك التي تحفظ على السحابة..؟ أم تلك التي تمحوها السرعة؟

وهنا ندرك بيقين أن الانتماء لا يولد من المكان بل من القدرة على البقاء إنساناً وسط عالم لا يتوقف عن التبدل.