خديجة اللواتي.. أول سفيرة في تاريخ عُمان

اهتم السلطان الراحل قابوس بن سعيد رحمه الله منذ اليوم الأول لتسلمه قيادة سلطنة عُمان في يوليو 1970 بالمرأة العُمانية، فعمل على إخراجها من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار القرن العشرين، وتكفلها بالرعاية، وشدد على ضرورة تمكينها لتقف على قدم المساواة مع الرجل في بناء عُمان وتنميتها، وذلك من خلال إتاحة كافة الفرص أمامها كي تتبوأ أعلى مناصب الدولة، كحق من حقوقها، وتعويضاً لها عما واجهته من ظروف تاريخية ومعيشية صعبة.

يشهد على ذلك خطابه الأول في 27 يوليو 1970 والذي ورد فيه قوله: «إن الحكومة والشعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منهم بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد»، ثم خطابه في 16 نوفمبر 2009، بمناسبة افتتاح الانعقاد السنوي لمجلس عُمان، الذي قال فيه: «لقد أولينا، منذ هذا العهد اهتمامنا الكامل لمشاركة المرأة العُمانية في مسيرة النهضة المباركة فوفرنا لها فرص التعليم والتدريب والتوظيف ودعمنا دورها ومكانتها في المجتمع وأكدنا ضرورة إسهامها في شتى مجالات التنمية».

وكان من ثمار هذه السياسة الحكيمة والرؤية السديدة أن تقدمت المرأة العُمانية بخطى ثابتة وروح وثابة لشغل حقائب وزارية ومناصب دبلوماسية وأكاديمية وإدارية وإعلامية وعسكرية وتشريعية.

إحدى العُمانيات الكثر اللواتي استفدن من هذا التوجه السلطاني، المستمر إلى اليوم في عهد صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان الشقيقة، هي خديجة حسن سليمان اللواتي، المنحدرة ــ بحسب لقبها ــ من طائفة اللواتيا التي استوطنت مسقط ومطرح، وانتشرت في باقي مناطق السلطنة منذ القرن السابع عشر الميلادي، وصارت اليوم جزءاً لا يتجزأ من مكونات الشعب العُماني متعدد الطوائف والأعراق.

ولدت خديجة بمدينة مطرح المجاورة للعاصمة مسقط في سنة 1952، ابنة لوالدين عرف عنهما الحرص الشديد على تعليم وتأهيل أولادهما. قرر والدها الحاج حسن سليمان اللواتي مغادرة البلاد، من أجل العمل أو التعليم أو كليهما.

وهكذا سافر الحاج حسن اللواتي من مسقط مع عائلته، وبرفقتهما خديجة البالغة وقتذاك سنة واحدة من العمر، إلى الكويت أولاً، ومنها انتقل إلى العراق، حيث عاش وعمل واستقر لسنوات طويلة، وحيث نشأت وكبرت وتلقت خديجة تعليمها النظامي وأكملته حتى المرحلة الثانوية. ومن ثمّ التحقت بجامعة بغداد لإكمال تحصيلها الجامعي، فتخرجت في عام 1974 في كلية الآداب، حاملة درجة ليسانس آداب اللغة الإنجليزية.

لم تكتفِ خديجة اللواتي بذلك القدر من التعليم، وإنما عززته بالسفر إلى المملكة المتحدة، حيث حصلت، بدعم من والديها، على دبلوم في إدارة الأعمال وتنمية المجتمعات المحلية من كلية «هيدرز فيلد». بعد ذلك عادت إلى بلادها بشوق لتسهم بعلمها في عملية النهضة والبناء والتنمية التي كانت وقتذاك عنواناً لعهد السلطان قابوس.

في عام 1975 بدأت خديجة مسيرتها العملية بالالتحاق في مسقط بوزارة التنمية التي لم تعمل بها سوى أشهر قليلة، تلاه انتقالها للعمل بوزارة الخارجية العُمانية التي كان يقودها آنذاك قيس بن عبدالمنعم الزواوي.

بدأت خديجة العمل من الصفر، وراحت تتدرج في السلم الوظيفي خطوة خطوة فمن سكرتيرة ثانية، إلى سكرتيرة أولى، فمستشارة، فوزيرة مفوضة معنية بمتابعة علاقات بلادها مع المنظمات الدولية وبرامج الأمم المتحدة الإنمائية وصناديق التنمية الخليجية وغيرها.

واستمرت على هذا الحال، تعمل بدأب ونشاط، وتكتسب الخبرات، وتؤسس العلاقات، إلى أن جاء يوم الرابع عشر من سبتمبر 1999 الذي صدر فيه مرسوم سلطاني، يقضي بتعيينها سفيرة فوق العادة لدى مملكة هولندا، قبل أن يصدر في مايو سنة 2000 المرسوم رقم 42 لعام 2000، والذي قضى بتعيينها ــ إلى جانب منصبها ــ سفيرة مفوضة غير مقيمة لدى مملكة بلجيكا ودقية لوكسمبورغ الكبرى.

وبهذا، دخلت خديجة تاريخ بلادها أول عُمانية تتولى منصب السفير. ومما لا شك فيه أن هذا التكليف وضع على عاتقها مسؤولية كبيرة لجهة إثبات جدارتها كسيدة لم تسبقها في منصبها واحدة من بنات جنسها. وقتها صرحت قائلة: «ليس بغريب أن تتولى المرأة العُمانية منصباً رفيعاً، فكما أثبتت كفاءتها في الداخل، فقد حان الوقت لتثبت كفاءتها في العمل الدبلوماسي». لاحقاً سجل عنها قولها: «كوني أول سفيرة عُمانية كانت مسؤوليتي كبيرة جداً. كنت أقول إذا نجحت فإنني سأفتح باب التحاق العنصر النسائي في هذا السلك، وإنْ فشلت فسيكون انعكاساً سلبياً على زميلاتي».

والحقيقة أنها نجحت ولم تفشل، ليس فقط في قيادة سفارة بلادها، وإنما أيضاً في تولي عمادة السلك الدبلوماسي بمملكة هولندا، التي آلت إليها في عام 2004، بدليل توالي تعيينات النساء العُمانيات كسفيرات، حتى بلغت نسبتهن في عام 2018 نحو 7 بالمائة من إجمالي سفراء عُمان في الخارج.

فمن بعد خديجة، عينت السلطنة حنينة بنت سالم المغيري سفيرة مقيمة لها في واشنطن وسفيرة مفوضة غير مقيمة لدى كندا والمكسيك وكوبا، ثم عينت «كفاية بنت خميس الرئيسي» سفيرة فوق العادة لدى مملكة أسبانيا، ثم جاء تعيين ليوثا بنت سلطان بن أحمد المغيري سفيرة مقيمة لدى ألمانيا وسفيرة مفوضة غير مقيمة لدى كل من السويد والنرويج والدنمارك وبولندا وفنلندا وآيسلندا والكونفدرالية السويسرية.

دعونا نتعرف إلى خلفيات عمل خديجة بوزارة الخارجية العُمانية وقرار تعيينها أول سفيرة، من خلال ما روته بنفسها في حوار نشره موقع أثير الإلكتروني (11/11/2020)، حيث أخبرتنا أنها رفضت منصب السفير في هولندا حينما عرض عليها الموضوع أول مرة، ولم تتشجع له بسبب دراسة أبنائها واختلاف الثقافة وصعوبات التغرب، ناهيك عن عدم تحمس زوجها للفكرة.

وأضافت إنه في العام التالي طلبها صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق، الذي كان آنذاك يشغل منصب أمين عام وزارة الخارجية، وعرض عليها مجدداً فكرة تمثيل عُمان في مملكة هولندا سفيرة مفوضة، قائلاً لها أنا أراك إنساناً مؤهلاً لهذا المنصب، وإذا لم توافقي هذه المرة فسيكون الأمر صعباً لك في المرات القادمة.

تقول خديجة إنها أخبرت زوجها بالأمر، فوافق وشجعها وكان داعماً لها، فسافرت إلى هولندا حيث ظلت تخدم بلدها هناك طوال عشر سنوات، فيما كان زوجها في السلطنة بحكم عمله الحكومي، واثنان من أبنائها معها، واثنان آخران يكملان دراستهما في الخارج.

وخلال الفترة التي أمضتها سفيرة في هولندا، نجحت خديجة في توثيق علاقات بلادها بمملكة هولندا، وهي علاقات قديمة يعود تاريخها إلى عام 1670م، حينما أسست هولندا مكتباً لها في مسقط في عهد الإمام سلطان الأول بن سيف اليعربي (دام حكمه من 1649 إلى 1679)، بهدف تعزيز الصداقة والتفاهم والتعاون والتبادل التجاري، أي قبل أن يقرر البلدان إقامة علاقات دبلوماسية في العصر الحديث في عام 1972 (افتتحت هولندا سفارتها في مسقط عام 1982، وافتتحت عُمان سفارتها في لاهاي عم 1999).

كما أنها ساهمت في إبرام اتفاقيات مهمة بين البلدين في مجالات مختلفة، لعل أهمها وأنجحها من الناحية الاقتصادية اتفاقية أبرمت في عام 2002 تأسست بموجبها شراكة اقتصادية واستراتيجية بين الحكومة العُمانية وسلطة ميناء روتردام الهولندي لنقل الخبرات المتقدمة لميناء روتردام، الذي يعد من أكبر وأهم موانئ أوروبا، إلى ميناء صحار الصناعي، بهدف بناء منظومة تشغيلية على مستوى عالمي، وبناء اقتصاد لوجستي حديث ينسجم مع رؤية عُمان 2040، ويعزز من قدرة الميناء العُماني على استقطاب خطوط الشحن الدولية، ومنافسة الموانئ الإقليمية، وتوجيه سلاسل الإمداد العالمية والتجارة البحرية.

ويتضح مدى أهمية هذه الاتفاقية، التي سعت السفيرة لإبرامها بنجاح وواكبت مراحل التفاوض حولها بحماس، مما قاله البروفسور جان فان هوفن من جامعة إيراسموس في روتردام أن تكامل ميناء صحار مع ميناء روتردام ليس مجرد تعاون تجاري، وإنما هو انتقال للمعرفة الأوروبية إلى بيئة خليجية قادرة على المنافسة العالمية.

إلى ما سبق نجحت خديجة في إقناع الحكومة الهولندية بإقامة قرية مصغرة في أحد المتاحف للترويج للثقافة والتاريخ العُمانيين، وإقامة معرض للتراث العُماني لمدة ستة أشهر بمتحف نيوكرك في أمستردام، وكان لها دور كبير في تنظيم أسبوع عُماني ضمن فعاليات روتردام، عاصمة الثقافة في أوروبا، وتأليف كتاب للطفل الأوروبي عن عُمان، والمساهمة في إعداد فيلم تعليمي سياحي تحت عنوان صحراء على البحر لتلاميذ المدارس الهولندية والأوروبية.

هذا، ناهيك عن نجاحها في إقامة كرسيين للدراسات العليا باسم السلطان قابوس في اثنتين من أكبر الجامعات الهولندية، وتفعيل مذكرة التعاون الموقعة في عام 2001 بين جامعة السلطان قابوس والمؤسسة الهولندية للتعاون الدولي في مجال التعليم وتبادل البعثات الطلابية.

ومما لا جدال فيه أن خديجة اكتسبت من عملها الدبلوماسي الكثير من الخبرات والمعارف الإضافية، وبنت لوطنها علاقات وروابط متشعبة مع رموز المجتمع الهولندي وساسته وإعلامييه ورجال أعماله، كما أنها تدربت على المهام والأعباء والمسؤوليات الملقاة عادة على عاتق من يتولى عمادة السلك الدبلوماسي في بلد ما.

وبعد رحلتها الدبلوماسية الناجحة على مدار عشر سنوات، عادت خديجة إلى ديوان عام وزارة الخارجية لتشغل منصب مدير دائرة مكتب الوزير، ثم منصب مدير دائرة التعاون الثقافي حتى تاريخ تقاعدها من الخدمة المدنية.
على صعيد حالتها الاجتماعية، اقترنت خديجة بمواطنها الدكتور علي حسن العبدواني المتخصص في التدريب المهني، والذي عمل لسنوات مستشاراً لوزير القوى العاملة لشؤون التخطيط قبل أن يتقاعد.

ولها منه أربعة أبناء، حصل الأكبر بينهم على شهادة الدكتوراه في مجال هندسة النفط من جامعة دلفت Delft للتكنولوجيا التي تعد من أعرق وأكبر جامعات هولندا التكنولوجية العامة، وحصلت ابنتهما الوسطى على شهادة الماجستير من جامعة ليدن Leiden في هولندا، بينما حصل ابنهما الأصغر على شهادة البكالوريوس في مجال الميكترونكس (تحويل الأجهزة والآلات من التشغيل الميكانيكي والكهربائي إلى التشغيل الآلي)، وشهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ستراث كلايد Strathclyde الأسكتلندية في غلاسغو، وتخرجت ابنتهما الصغرى من جامعة أكسفورد بروكس Oxford Brooks المعروفة سابقاً بجامعة أكسفورد بوليتكنيك، في تخصص الأطفال في سن ما قبل المدرسة والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ونختتم بالإشارة إلى أن السفيرة المتقاعدة حالياً خديجة اللواتي، قد تمّ تكريمها في أكتوبر 2020 في يوم المرأة العُمانية ضمن الشخصيات النسائية المثابرة كما أن زوجها نال التكريم في عام 2010 ضمن المكرمين من قبل منظمة العمل العربية.