متى نقع في حب الأمكنة؟

ما المقصود بالأمكنة أولاً؟ إن الأمكنة التي نرتبط بها لزمن أو لسنوات طويلة أو نتعرف عليها سريعاً ونمر بها مرور الكرام كثيرة جداً، حتى إننا لا نستطيع أن نعدها أحياناً، فالحياة في جوهرها مكان، وهي في محصلتها النهائية مجموعة أمكنة تتسلسل بنا ونتنقل من خلالها، فإما أن نرتبط بها وتشكل لنا ذاكرة وحياة وحنيناً، وإما أنها لا تعدو أن تكون مجرد محطات وخطوات وتفاصيل في الطريق الطويل!

والأمكنة تتسع وتضيق، فقد يتحول قلب من نحب إلى وطن، وقد يضيق وطن فلا يعود يحتمل أهله أو يحتملونه، وقد نتشارك مكاناً صغيراً جداً مع شخص نحبه، فنراه يتسع حتى يصير بحجم الأرض!

وتتناءى عنا أمكنة فلا نشعر بغيابها عنا، لأنها لم تترك فينا أثراً أو قد يكون ما تركته أشبه بجرح منه بأثر، في حين أننا نطأ مكاناً أو بلاداً أو بيتاً للمرة الأولى فنلتصق به ويلتصق بنا فلا يغادرنا ولا نغادره أبداً.

أدخل أمكنة للمرة الأولى في حياتي، فتهب علي رائحة عطر، أو بخور، أو رائحة كتب مخزنة في صناديق مغلقة منذ زمن، فتنقلني الرائحة إلى غرف ومنازل ومخازن ومكتبات أعرفها جيداً وأعجب كيف اختزنتها ذاكرتي بكل تفاصيلها، وكيف تخرج الذاكرة مخزونها بهذه التلقائية، لنعرف أن ذلك المكان البعيد، ليس بعيداً أبداً، إنه مخزون فينا بكل تفاصيله، لم تؤثر فيه ولم تغيره المسافات، وطول الزمن. من هنا جاء قول الشاعر العربي في مديح الأمكنة:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

نحن نحب الأمكنة التي تشبهنا وفيها شيء يشبه ذائقتنا وشخصيتنا وتفضيلاتنا، نحب الأمكنة البسيطة، الدافئة، التي تضج بوجود أناس طيبين وبسطاء، مضيافين، ومرحبين، مبتسمين ومعطائين، نحب الأمكنة التي تمتزج فيها عناصر الطبيعة ومكونات الكون الشاسع.

حيث يتجاوز فيها الحجر، والشجر، والخشب، والطين، والبشر، والفن، والشمس والهواء، وحيث نرى السماء من نوافذها، وتهب علينا أصوات الحياة بوضوح.