الفكرة والواقع

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي، منذ سنوات، صورة لشاب وحيد يبدو عليه بؤس الحال، يجلس في إحدى عربات الميترو في ألمانيا، دون أن يشعر أو يدري بما يدور حوله، وقد بدا في الصورة بعينين تتفرسان الفراغ، وتترقبان شيئاً مجهولاً بخوف واضح. ما لفت انتباه رواد مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام هو الفتاة الحسناء التي كانت تجلس بقرب الشاب الذي لم يعرها أدنى اهتمام!

كانت الفتاة في الصورة هي الممثلة الشابة مايسي ويليامز، واحدة من أشهر ممثلات العالم التي لعبت دور البطولة الثانية في مسلسل صراع العروش، وكانت تزور ميونخ يومها، فركبت الميترو والتقط لها أحدهم تلك الصورة التي جعلت صحفية في صحيفة (دير شبيغل) تبحث عن الشاب لتسأله: ما الذي حصل لك وقد حظيت بفرصة يتمناها أي شاب، لقد كنت جالساً إلى جانب مايسي ويليامز، فما الذي حدث لك؟

والحقيقة، فإنه ليست الصحفية وحدها، بل نحن جميعاً دون استثناء نرى العالم من منظورنا الخاص، بناء على فكرة أو أفكار نركب العالم عليها، ونقيس الواقع من خلالها، بينما الأفكار في جهة، والواقع في جهة أخرى تماماً.

أجابها الشاب ببساطة: أنا مهاجر غير شرعي، وركبت الميترو دون أن أدفع ثمن التذكرة، لقد كان تفكيري منصباً كله على مراقب التذاكر الذي لم أكن أفكر في غيره، وكنت أعد الدقائق قبل النزول، لم أكن في وارد مراقبة فتيات أو ممثلات!

لا أدري فيما إذا كانت الصحفية التي لا يمكنها بأي حال أن تشعر بمأساة وقلق ذلك الشاب، قد فهمت تبرير الشاب أم لا، إلا أنها بلا شك قد راجعت فلسفة العلاقة بين الأفكار والواقع من مناظير متباينة، لأن معظم الأحكام التي نطلقها على الآخر تنطلق من هذه المفارقة.

ففي هذه الأيام مثلاً، أطلقت صفات كالتفاهة والسخافة وفراغ العقل على هذه الموجة الصاخبة الجديدة التي تجتاح العالم، موجة ملاحقة الدمية (لا بوبو)، ونحن إذ نجمل الظاهرة ضمن نظام التفاهة (وهي تافهة فعلاً)، فلأننا نقيم منظومة أفكارنا بناء على واقعنا وشخصياتنا، وبعيداً عن واقع آخر يتحرك حولنا وبالتوازي معنا، إننا لن نفهم نزعة التفاهة هذه إلا إذا كنا جزءاً من نسيج الواقع الذي ينتجها.