عندما طرحت إحدى السيدات مداخلتها في جلسة حوارية حول مستقبل النشر العربي، متحدثة عن غلاء أسعار الكتب ولجوء مزوري الكتب لظاهرة القرصنة أو سرقة الكتاب وإعادة طرحه أمام القراء بأسعار زهيدة جداً، فقد اقترحت على الناشرين بديلاً أو مخرجاً لهذا الوضع، وهو أن يقوم كل ناشر بطباعة نسخ شعبية بمواصفات أقل جودة للقراء محدودي الإمكانيات!
دفع هذا الاقتراح إحدى السيدات الناشرات لإطلاق دعابة خلاصتها (ماذا لو قام الناشر نفسه بقرصنة كتبه بعد طباعتها ليضمن انتشاراً لكتبه) لكن فكرة النسخ الشعبية، تدحرجت في أروقة مكتبة محمد بن راشد، التي تحتضن قمة المكتبات والنشر هذه الأيام، لتصل لأسماع ناشرة عربية، فتجيب قائلة: وهل يحتمل سوق الكتاب العربي أن نصدر نسخاً فاخرة ونسخاً شعبية؟
إن الوضع كما قالت أكبر من ذلك بكثير، إنه يتعلق باختفاء القراء أو بما يمكن أن نسميه (ظاهرة أفول القارئ)!
فهل يمكننا أن نطرح أو نتحدث عن أفول القراءة أو أفول القارئ بتلك الجدية والقلق المستحقين؟ هل هي ظاهرة حقيقية بالفعل أم أن هناك نسبية في مدى انتشار وتواجد الظاهرة بحسب القراء والبلدان ومستوياتهم المادية والاقتصادية؟ لأن المؤشرات الفعلية التي تدل على تراجع القراءة «الرصينة» واضحة، يدل عليها تراجع معدلات شراء الكتب الجادة والأصلية، ثم نأتي لسيطرة ثقافة الصورة والمقطع القصير على الذائقة العامة، ما جعل التركيز والتأمل لدى الأجيال الحديثة مهارتين نادرتين، إضافة إلى أن القراءة لم تعد نشاطاً يومياً طبيعياً، بل «اختياراً ثقافياً» نخبوياً أو لنقل ترفاً وقتياً.
في المقابل هناك من يرى أن القراءة لم تختفِ، بل تغيرت وسائطها وأغراضها: فهناك قراءة رقمية متزايدة، لكنها مشتتة وسطحية غالباً.
وهناك جماعات صغيرة تمارس القراءة بعمق عبر النوادي والمنصات، كنوع من المقاومة للسطحية العامة. وهناك شباب يقرؤون اليوم نصوصاً مختلفة: مقالات طويلة، منشورات فلسفية، روايات إلكترونية.. إلخ.
إن الحديث عن أفول القراءة جاد لأنه يعني تراجع نموذج الإنسان القارئ — أي الإنسان الذي يبني وعيه على التدرج والفهم والتأمل، لكنّه في الوقت نفسه لا يجب أن يكون حديثاً يائساً أو بكائياً، لأن التاريخ الثقافي يعلمنا أن كل أفول يولّد شكلاً جديداً من الوعي، حتى لو بدا أكثر هشاشة أو سطحية.