ما الذي تحبه في الحياة لأنه يشعرك بالقيمة والحميمية؟ هل فكرت أن تضع قائمة بما تحبه وتتمسك به أكثر من أي شيء آخر؟ قد يكون ما تحبه وتتذكره مكاناً بعينه أو سلوكاً وممارسات تحب القيام بها في ذاك المكان، أو إنساناً تتشارك معه الوقت، قد تحنّ لزمن عشته، لأوقات قضيتها رفقة الأصدقاء، لأحلام لم تتحقق، لمنزل العائلة، لكتاب، لمدينة لك فيها الكثير من الذكريات، لزمن تحب لو تستعيده... إلخ!
وخلافاً للأشياء التي أصبح الناس يسعون للحصول عليها بدأب وإصرار شديدين، مما تسمى بالمقتنيات والممتلكات الشخصية، والتي لا جدال في أهميتها، لكن يمكن للحياة أن تمضي بسلاسة في وجودها أو في عدمه (كالحقيبة النسائية الباهظة والسوار المرصع والخاتم الثمين وساعة اليد الفاخرة.. وغيرها)، إلا أنها في نهاية الأمر تبقى أشياء لا تضيف لإنسانيتك بعداً أو قيمة، بقدر ما تشبع رغبات وتسدّ نواقص معينة!
إن الأشياء التي تقع خارج هذا التصنيف المادي والاستهلاكي، تستحق أن نستحضرها ونتحدث عنها بامتنان وبصوت عالٍ؛ لأنها تضيف لنا ولأفكارنا وأرواحنا الكثير من المتعة والإشباع والمعرفة والاتساع الذي نحتاجه لنصبح أكثر إنسانية وخفة وتواصلاً وإيجابية ونبلاً؛ لأن الحياة ليست مجرد احتياجات ورغبات فقط، ولأن الحياة لا تعاش بالخبز وحده!
من عادتي أن لا أتناول وجبة الإفطار إلا في الصباحات التي أستيقظ فيها قبيل السادسة صباحاً. أحب هذا الإحساس الذي يرافقني وأنا أتحرك وحدي في أرجاء البيت، أفتح نوافذ المطبخ فيتدفق الضوء مالئاً المكان، في الخارج تضج الشجيرات بصحو العصافير ومشاغباتها، أسكب ماء في آنية فضية لأعدّ فنجان قهوة، أختار فنجاناً أحبه، أضعه في صينية صغيرة، وأمشي باتجاه المسجلة، أستمتع ببرودة الأرض تحت قدمي الحافيتين، أختار أسطوانة لفيروز فيتسرب صوتها مغيّراً كيمياء المكان، أقول لنفسي في كل صباح يستمع العالم لفيروز.
فماذا تسمع فيروز يا ترى؟ أظنها قالت يوماً (أسمع نفسي من شبابيك العالم). لحظتها عرفت لماذا أحب الإفطار في الصباح الباكر جداً! لأنه طقس ارتبط عندي بمدن العالم البعيدة التي أستيقظ فيها باكراً لأعدّ فطوري على وقع احتفالات الطبيعة.