في روايته (الحب في زمن الكوليرا)، يقول غابرييل غارسيا ماركيز «صوتها كان بالنسبة له مثل رسالة حب سرية، تُقرأ في الظلام، لا تحتاج إلى أي شيء آخر لتضيء قلبه)، عبارة لا تُنسى في مديح الصوت وتأثيره في القلب والروح، فالصوت مثل العطر، ذاكرة تتجاوز المادة والمكان والزمان، إذ يمكن لذاكرتك أن تحتفظ ببصمة الرائحة والصوت لسنوات طويلة جداً، وفي لحظة مباغتة، يتدفق فيها ذلك العطر أو ذلك الصوت، تجد وجوهاً وأحداثاً وأسماء تحضر من حيث لا تدري، فلا شيء يُنسى كأنه لم يكن!
فقد يمر بنا الكثير، وقد نتوقف عند بعض التفاصيل والأسماء والأصوات والروائح، نتوقف كأن أقدامنا غرست في رمال متحركة، لا شيء يجعلنا نتقدم للأمام، سوى أن نتعمد النسيان، أن نمسح هذا الذي قبض علينا، لكن ما تعمدنا نسيانه لم ينمحِ، لم يذهب إلى الفراغ، لم يتحول إلى رماد، لقد غيبنا بإرادتنا عن مستوى الرؤية والتذكر، لكنه يبقى عالقاً بانتظار لحظته.
يتجاوز الصوت حقيقته الفيزيائية، كاهتزازات تنتقل عبر الهواء لتصل إلى آذاننا، إنه أعمق من ذلك، لأنه يرتبط بالذاكرة والعاطفة والخيال. لذلك، يتجاوز المعنى المباشر إلى معانٍ أعمق، فبعض الأصوات لا يقاوم سحرها، وبعضها يُدخل الطمأنينة إلى الروح، كصوت الأم وهي تغني لطفلها، أحياناً يكفي أن نسمع صوتاً أو نبرة صوت معينة، ليصحو الشوق والحنين في داخلنا، دون مقدمات، يكفي تلك النغمة فقط.
والصوت يمكنه أن يشكل حضوراً رمزياً لشخص أو لفكرة، كما قال ماركيز: إنه «رسالة حب سرية»، أي أن مجرد النبرة أو الإيقاع، يكفي ليضيء في القلب ما لا تضيئه الكلمات وحدها. ولأن الصوت يترك أثراً في الدماغ يثير مشاعر معينة، وقد يدفع للهياج والثورة والتعاطف والاندفاع، فإن شخصيات معروفة في التاريخ، كان صوتها وهي تتحدث، كفيلاً بتحريك الجماهير في الشوارع (جمال عبد الناصر كان يمتلك صوتاً كهذا)!
وللصوت قدرة غريبة على إيقاع الناس في هوى وحب صاحبه، حتى من خلف الأبواب والميكروفونات، مع أن صاحبه لا يمتلك أي مميزات جمالية! كما أن الصوت قادر على استدعاء الماضي، حتى إنه يعيدك إلى لحظة بعيدة جداً، كما لو أنك تعيشها الآن!