كيف ينطلق الأدب الحقيقي من فلسفات ورؤى وجودية عميقة ذات صلة بأسئلة الإنسان وطموحاته؟ وكيف يكون حقيقياً وليس ضرباً من رصف الكلام ورصه وإنتاج نصوص ميتة لا تخاطب وجداناً، ولا ترقى بذائقة، ولا تتصل بالإنسان وأسئلته وحيرته وما يحيط به ويهدده؟ كيف يبتعد الأدب عن إنتاج التفاهة والترويج للهبوط؟
إن أعمالاً أدبية خالدة للروائي خوسيه ساراماجو، على سبيل المثال (كل الأسماء، العمى، البصيرة...)، مثال ساطع على خطورة الأدب وأهميته، وعمق الدور الذي يقوم به للارتقاء بالوجدان الجمعي للإنسانية وتوجيهه، وإضاءة الوعي والحس لدى جميع أطياف المتلقين طالما هم بشر في نهاية المطاف!
ففي رواية «كل الأسماء» يختصر ساراماجو فلسفة الوعي التي أراد إيصالها بحكاية موظف الأرشيف الوطني (خوسيه)؛ الاسم الوحيد في كل الرواية، التي لا تتعامل ولا تتحدث إلا عن الأسماء، ولكن! من منظور المؤسسة والأنظمة التي لا ترى في البشر سوى أسماء على ملفات وبطاقات، أسماء جامدة، بلا حياة، بلا تاريخ، أسماء لا أحد يعرف عنها شيئاً، مجرد أسماء لا أكثر ولا أقل!
الفكرة التي أرادنا أن ننتبه لها تتلخص في أن الإنسان ليس مجرد اسم في سجل أو ملف أو ورقة في أدراج موظف بيروقراطي، الإنسان مهم بذاته، لا لأن تصنيفاً ما اعتبره مشهوراً أو ذا قيمة، هو مهم لأن له دوراً وحياة كاملة، وتجربة فريدة تستحق أن تُرى وتُروى ويُحتفى بها، بل ويصفق لها.
عندما سقطت تلك البطاقة عن طريق الصدفة ضمن أوراق المشاهير الذين يبحث عنهم خوسيه، جلس طويلاً يفكر في صاحبة البطاقة، هذا الاهتمام تحول إلى بحث طويل وشائك، هل كان يبحث عن امرأة يحبها؟ تقاطع معها ذات حياة أو ذات علاقة؟ هل تم الإبلاغ عنها؟ هل...؟ هل...؟ لا، في الحقيقة بدا خوسيه، الموظف الغارق في الأوراق والبيروقراطية، وكأنه يبحث عن ذاته، عن ذاكرته، وعن حياته التي تتسرب منه، كان البحث عن الذاكرة ضد النسيان والأرشفة، وعن الحياة في مواجهة العدم، والموت والغرق في العدم، كان بحثاً عن الفرد لانتشاله من بحر المجموع الذي يذيب الملامح ويحول الجميع لأرقام وبطاقات لا أكثر!