السفر بمعنى من المعاني أرض حقيقية للخبرات الخصبة، لذلك كلما وطئت بلداناً أبعد وفضاءات أكثر، تلامست حواسك بالمختلف والمدهش، وما لم تعتد أو تعرف طوال عمرك مهما بلغت من العمر. والحقيقة فإن معظم قاطني الجغرافيا العربية يشبهون الأشجار في تمسكهم بالأشياء وانتمائهم لها، أكثر مما يشبهون الطيور التي يهمها العش أكثر من الشجرة!

لذلك، فنحن نعتني بالأشجار كثيراً، ونتركها تنمو بحرية في فضاءات مفتوحة دون أسوار أو أقفاص، لأننا على يقين من أنها لن تهرب، لن نصحو في الصباح لنجد أشجار الفناء وقد غادرتنا، هذا لا يحدث أبداً، لكن جرّب أن تترك طيراً بلا قفص مغلق! سيطير قبل أن تنهض من مكانك، هذه طبيعة ثابتة: الشجرة تحب أن تنغرس في الأرض لتبقى واقفة، والطير يحب أن يحلق في السماء ليظل حياً!

وككائنات تشبه الأشجار نحب الارتباط بالأمكنة، بالمنازل، بالأرض، الوطن، حارات اللهو والطفولة، مكان العمل الذي ننتمي إليه لسنوات، المدرسة الأولى... إننا دون أن ندري نبني أسواراً وهمية ونسجن أنفسنا داخل الذاكرة والأيام والتفاصيل، ونزيد أكثر بأن نضفي عليها الكثير من القداسة والرومانسية العاطفية والوطنية، كي لا نشعر بأنها محض أسوار وقيود!

عندما سافرت للولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، عرفت للمرة الأولى أن دخول المنتزه الوطني (الحديقة العامة) حق مكفول ومجاني للجميع بلا استثناء، وحيثما كان موقعك تستطيع الدخول دون حاجة لبوابة دخول، لا وجود لهذا القلق التافه بينما تتكفل الطبيعة بضبط وقت الدخول والخروج وليس موظفي وزارة المحميات والحدائق! ستجد لوحة مكتوب عليها الدخول مع شروق الشمس والمغادرة وقت الغروب لضرورات الأمن والسلامة!

تأمل التعامل المقنن والواعي لمسألة الأسوار وتسهيل أمر التمتع بالحقوق الضرورية، وتفكيك فكرة الحواجز والأسوار الوهمية والحقيقية، ولذلك فإن الحديقة مليئة بالمتنزهين، ومحبي الطبيعة، وممارسي المشي والجري ومحبي الدراجات، والكبار والشباب، والراغبين في الجلوس تحت أشعة الشمس والتأمل!

الحرية فضاء، تمنح الإنسان حقوقه كما تغير شكل وتخطيط المدينة وسلوك الإنسان.