يعود لخاطري في كل مرة أقلب فيها الأعداد الهائلة من الكتب في مكتبتي ذلك السؤال الذي طرحه الروائي الإيطالي ايتالو كالفينو: لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ في إطار هذا السؤال الهام أعود لواحدةٍ من أهم الروايات التي قرأتها، وهي (أوسكار والسيدة الوردية)!
إن الروايات العظيمة ليست بالضرورة تلك التي تتكون من مئات الصفحات، كما أن عبقرية الراوي لا تكمن في القبض على تشابكات أحداث عمله عبر تعدد أمكنة وأزمنة متفاوتة، والغموض الذي يحبس أنفاس القراء، لأن هذه الرواية التي اخترت الكتابة حولها اليوم، واحدة من الروايات القصيرة العظيمة التي تسجل انتصاراً حقيقياً لهذا النوع من الروايات القصيرة والمؤثرة والقصيرة جداً، ولتنضم إلى روايات تاريخية تشبهها مثل (الأمير الصغير) و(حكاية السيد زومر) و(القط الذي علم النورس الطيران) .. وغيرها.
الرواية من تأليف الفرنسي إريك إيمانويل شميدت، وهي لا تتجاوز الـ 96 صفحة، تحكي باختصار شديد قصة الأيام الـ12 الأخيرة في حياة طفل «أوسكار» مريض بالسرطان، إنه البطل والراوي في الوقت نفسه، وهو طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، نزيل أحد المستشفيات، حيث يتلقى علاجاً كيمياوياً لا ينجح في إنقاذه من مصيره المحتوم، وللتخفيف عن المرضى تتبرع بعض السيدات بزيارتهم وقضاء وقت معهم، وقد كانت الماما الوردية زائرة «أوسكار» اليومية ورفيقته في رحلة الـ12 يوماً الأخيرة!
وبالرغم من قصر الرواية، وسلاسة أسلوبها وبساطتها باعتبارها تروى على لسان طفل، إلا أن المؤلف ذا النزعة الصوفية قد ضمّنها الكثير من الأفكار الإنسانية العظيمة والعميقة جداً كالشعور بالوحدة، الألم، الحب، الصدمة، الإحباط، الإيمان، الشك، الحرية، الاختيار، العلاقة بالوالدين، العلاقة بالمريض، الموت، الدين، أخلاق الطبيب، تجربة المرض القاتل، وتجاوز المصيبة بالإيمان.. كل ذلك عبر عمل صغير وبصوت طفل يعبر أياماً قاسية ليصل إلى الموت في نهاية الرواية، فيقرر المؤلف أن يجعله يموت في الوقت الذي يذهب والداه ومرافقته العجوز لاحتساء القهوة في مقهى المستشفى.. ليكون رحيله رحيماً وخفيفاً عليهم!
تعتمد تقنية الرواية على رسائل يكتبها «أوسكار» كل يوم - بناء على نصيحة الماما الوردية كما يسميها - يتمنى فيها كل يوم أمنية روحانية مختلفة، بحيث نعيش معه آلامه ومعاناته وتجاوزه لمحنته بالحيلة الأسطورية التي أخبرته بها العجوز!