الأدب.. العلاقة الإنسانية

يقول الكاتب المصري الراحل يوسف إدريس «أن تؤلف كتاباً، أن يقتنيه غريب، في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلاً، وأن يختلج قلبه لسطرٍ يشبه حياته، ذلك هو مجد الكتابة»، فهل يتبادر هذا لذهن الكاتب وهو يجلس في الليل وحيداً يحايل الفكرة، ويبحث عن المعنى ويشقى كي ينتهي من كتابة سطر في حوار أو نهاية لرواية، هل يحلم به ويوقن أنه سيحدث يوماً؟

هل يتخيل هذا المدى الشاسع لصدى كلماته وأفكاره، وأنها ذات يوم ستصل إلى أبعد مما يتصور، وستتجاوز كتابته وكلماته الحدود والحواجز ليقرأها غرباء في مدن غريبة لم تطأها قدماه يوماً، وستختلج قلوبهم بسحر تلك الكلمات لأنها عبرت عما يشعرون به، ولأنها تشبه ما يعيشونه.. ربما لم يفكر، وربما قليلون من يؤمنون بحدوث ذلك.. ذلك هو «مجد الكتابة» كما يسميه يوسف إدريس!

حين كتب الروائي العظيم خوسيه ساراماغو روايته الفذة «العمى» جعلها رواية بلا أسماء من أولها لآخرها، رغم أنها تموج بالشخصيات والصراعات والأحداث ورغم ما تضمره تلك الأحداث من فلسفة إنسانية، ومن تداخل أدوار وسياقات بلا حصر، إلا أن اسماً واحداً لا يمكن العثور عليه في تلك الرواية! فلماذا أغفل ساراماغو أسماء شخصياته؟

لأنه أراد أن يمنح عمله هوية عالمية، حتى يقرأه أي إنسان في أي مكان على سطح الأرض فيعلم أن ضياع القيم والأخلاق هو العمى الحقيقي الذي يهدد البشرية، وهو الذي إذا حصل سيحول الناس إلى وحوش تتقاتل على أدنى الاحتياجات! هذا هو المجد أن تكتب فيشعر كل إنسان أن هذه الكتابة تشبهه وتعنيه وتعبر عنه، ويمكن أن تحدث له!

لا زلت أؤمن بأن الأدب هو صلة القربى المشتركة بين شعوب الأرض، وأن البشر لا يجمعهم شيء كما يجمعهم الأدب وكما توحدهم الثقافة: الموسيقى والرقص والنحت والرسم والرواية والسينما والمسرح.. فأمام هذا كله نحن لا نحتاج إلى مجهود كبير، لأنه بمجرد أن تحضر اللغة وتترجم الآداب والأفلام أو تعزف الموسيقى، ويجلس الناس لينصتوا إلى إنسانيتهم ويعيشوا الفكرة نفسها التي جاءت من أقصى سهول روسيا بينما هم يتلقفونها في مكان قصي من الإمارات أو البرازيل أو كندا.. هذا هو مجد الثقافة.