«وادي الفراشات»

استحضرت روايات أزهر جرجيس، التي قرأتها له سابقاً بمجرد أن انتهيت من روايته «وادي الفراشات»، التي كانت ضمن القائمة القصيرة للروايات المترشحة للجائزة العالمية للرواية، فروايتاه «النوم في حقل الكرز» و«حجر السعادة» أشبه بسيرة أوجاع متصلة بلا مسرات، وبصيص أمل لا يظهر إلا في نهاية المطاف بعد أن يكون بطل السيرة أو الرواية قد شبع آلاماً وإحباطات وانكسارات، ما يحيلنا المشهد كله في الروايات الثلاث إلى سيرة العراق كبلد وكوطن، وتحديداً في سنواته الخمسين الأخيرة!

«وادي الفراشات» يرويها أزهر جرجيس بأسلوب الكوميديا السوداء، وبحس ساخر لكل ما يتعرض له بطل روايته «عزيز عواد» العراقي المبتلى بسوء الطالع وسوء التقدير معاً، والذي يتردى في مشاكله الحياتية ومعاندة الظروف وأحوال المعيشة، فيفقد على التوالي عمله وابنه وزوجته ووالدته وميراثه وحريته حينما يسجن بسبب سوء التقدير، حتى يصل به الحال إلى أن يعمل في نقل الأطفال الموتى مجهولي النسب، ويدفنهم في مقبرة المنبوذين أو «وادي الفراشات»!

«عزيز عواد» العراقي العزيز النفس الذي يعاود أفعاله دون تفكير لأنه قرر أن يكون عراقياً أصيلاً وإنساناً حقيقياً في الوقت الخطأ!

لا ينجو من هذا الواقع في سردية أزهر سوى الخال «جبران» نقطة الضوء الوحيدة في حياة عواد، واليد الحانية التي ربتت على أحزانه في سنوات الفاقة والعوز، الناجي الذي نجا لا لأنه عرف كيف يستغل الأحوال لصالحه كذلك الصديق الانتهازي الذي ركب موجة التدين الزائف، ولكن لأنه ولد خارج السنوات العجاف للعراق، فعرف ونجا، وعمل في مجال الكتب والثقافة وحيداً بلا عائلة، لكنه كان جبراً لحياة وظروف عزيز!

عزيز الذي يعيش في بغداد زمن الحصار.

يتخذ السرد في الرواية من سنوات الحصار فضاء زمنياً له، ويجعل من البطل راوياً للحكاية، وحين يتوفى نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار، وتجتمع كل رذائل الدنيا في مكان واحد: الفقر والبطالة والفساد والقمع والخوف والتدين الزائف، تصير الثقافة ترفاً، فيعزف الناس عن دخول المكتبات، وتغدو القراءة ضرباً من الرفاهية، فيصير تاجر الأفلام الإباحية شيخ دين، ويتحول المثقف إلى رجل يلتقط جثث الأطفال من على قارعة الطرقات والمزابل. هكذا ينتهي الإنسان في بلدان القمع والتسلط!