في الأيام التي تسبق رمضان، تحديداً في الخمسة عشر يوماً الأخيرة من شهر شعبان، كانت البيوت في دبي تعيش أجواءً احتفالية، حتى أننا كنا نشعر بأن رمضان يقف على الأبواب فعلاً، كما كانت الجدات تقول، كنا نشم روائح الزعفران والهيل والقهوة المحمصة والأرز الذي كانت جدتي تجففه في الشمس لتطحنه لقدور الفرني الذي ستعبق رائحته في أوقات العصر، بينما فتيات ونساء صغيرات يجلسن أمام المواقد يحركن ذلك المزيج الأصفر الثقيل الشهي الطعم والرائحة.

في بيتنا هذه الأيام التي تباعدت عن سنوات الستينيات، لا زالت أمي تستعد لرمضان بما يقدرها الله عليه، وأكثر ما تحافظ عليه هو إعداد القهوة، فتشتري القهوة الخضراء بكميات كبيرة، لماذا يا أمي؟ بيتنا يكفيه كيلوان، تقول: لإخوتك وأهلنا وأحبتنا وأصدقائنا؟ لذلك أحب دنيا أمي الدافئة جداً!

تغسل أمي تلك القهوة جيداً، وتجففها أياماً مغطاة بقماش أبيض كنقاء أيام رمضان، وتجلس فتاة ممن يعملن في المنزل لتحميصها وتجلس هي إلى جوارها تشير لها بالتعليمات، فالحبوب يجب ألا تحمص كثيراً حتى لا تسود وتحترق، ولا تحمص بخفة فتظهر نية لا طعم لها، ويوماً بعد يوم تنتهي عملية التحميص وتظهر أكوام القهوة المحمصة أمامنا، لتبدأ مرحلة أخرى!

لاحقاً توضع في حافظات زجاجية كبيرة، تلوح من خلالها حبات القهوة بشكل شهي، ثم تطحن وتعبأ في علب مخصصة لها، تغلق جيداً وتربط بشريط وتعلق به ورقة صغيرة عليها اسم المرسلة إليه، مرفقة بعلبة أصغر مملوءة بحبات الهيل وزجاجات ماء الورد وأكياس التمر.

هكذا تستعد أمهاتنا لرمضان، مقاربة لقول محمود درويش: «القهوة أخت الوقت»؛ أيّ وقت يخطر ببالكم، في رمضان وغير رمضان، في الصباح كما في المساء وكما في الظهيرات الراكدة والمساءات الحالمة، فهي مفتاح الصباح والمساء، وهي رفيقة المزاج وتوأمه، تعدل الرأس كما يقول أخي، وتحلّق بصاحبها حتى يشعر كأنه على أطراف الدنيا، القهوة قديمة حتى تبدو كأثر سومري، ولذيذة كمطرزات على ثوب فتاة تونسية، وهادئة كشيخ من أرض مكناس، وحلوة كشمس مصرية، هكذا هي القهوة تماماً، تصنع على مهل كحضارة، وتشرب سريعاً كحب..!