تبدو الأيام وكأنها صور مستعادة، لحظات مررت بها، للأمكنة نفس الرائحة، محل بيع التذكارات العابق برائحة الخزامى، تقف فيه فتاة كأنها خرجت من كتاب حكايات أسطورية، تبتسم لك بتلقائية، وتحييك بلغتها، فترد عليها بإنجليزية مقعرة، تشعر من نظرة عينيها أنها لم تفهم ما قلته للتو، تقلب بضاعتها، وتقول لمرافقيك بلؤم لا تحاول أن تخفيه: كل هذه البضاعة موجودة على موقع (شين) ببلاش! فيصدمك صوت يأتي من خلفك: اشترِ وأنت ساكت، فتداري حرجك وتخرج متسللاً، تتذكر أنك لم تقل للفتاة (شكراً) بالألمانية، التي صرت تفهم بعض كلماتها!
رائحة السوبر ماركت الضخم جداً، الذي يقع على الطريق العام، وتحب الذهاب للتسوق لأنه ضخم، ولأنه يبيع كل شيء تقريباً، بدءاً بثمار الطماطم، وانتهاء بعدة التخييم والأدوات المنزلية والكهربائية، لكن ما يلفتك أكثر، أنك في الحقيقة تحب الذهاب إليه لاستعادة هذه الرائحة التي تلفح ذاكرتك، بمجرد أن ينفتح باب الزجاج الأوتوماتيكي، ويبتلعك زحام المكان!
رائحة المكان حلوة جداً، مزيج من الفواكه، والخبز الطازج والقهوة، والزهور والصابون! بينما تبدو أنت كشخص معلق من ذاكرته، كل مكان يجذبك إليه، يشكل خيطاً في نسيج ذاكرة الروائح في ذاكرتك، تتذكر في نهاية اليوم أن ذاكرتك ليست سوى خليط من عطور وبخور، ورائحة ثياب جدتك وأمك، وأن أول ما يلفتك أو يجذبك في أي إنسان، رائحة عطره، وأن بصمة الذاكرة الأولى، هي الروائح التي لا تضيع ولا تتلاشى ولا تتشابه!
محل بيع الخبز الذي يقع في مواجهة المقهى الذي تجلس فيه بشكل دائم منذ عشرين عاماً تقريباً، لماذا تصر على الدخول إليه كلما مررت بهذا المقهى، أي رابط بين المكانين؟ إنها رائحة الخبز الذي يعبق في الساحة كلها، الخبز الساخن الذي يجعل الناس تقف طوابير للحصول عليه، فيتمازج بخور الكنيسة العتيقة، التي تعود للقرون الوسطى، مع روائح القهوة الإيطالية والخبز.. يا لها من ذاكرة!
إن استعادة الذاكرة والاستمتاع بمخزونها، واحد من أسباب السفر التي لم ينوه بها أحد، وهذا إجحاف لو تعلمون عظيم!