فخ الذاكرة 1- 2

بعد أن طلبت مني أن أقرأ ما كتبته وأبدي رأيي، لتعرف إن كان عليها أن تستمر أم لا، سألتني بشكل مباشر: ما الذي يجعل معظم الناس في هذه الأيام يقعون في فخ الحنين وينحرفون فيه دون أن يعرفوا أو يحاولوا الخلاص منه؟

قالت إن والدتها وأختها الكبرى ووالديها يظهرون ميولاً واضحة لأحاديث الحنين والذكريات وكأنهم يعيشون في الماضي. طالبة الأدب هذه لديها محاولات مبشرة في كتابة المقال الصحفي، كل ما تحتاج إليه التوجيه والإرشاد والكثير من القراءة والتدريبات العملية.

سؤالها يبدو وكأنه معضلة منتشرة بشكل كبير بين كثيرين ممن حولنا، وقد نكون نحن من بين هؤلاء (النوستالجيين) بدرجة أو بأخرى، وللنوستالجيا أو الحنين أسبابه ودوافعه ومشجعاته بلا شك.

كما أنه لا ينبع من أي نفس ولا تظهر أعراضه على الجميع، حتى وإن كانوا ينتمون لنفس الجيل أو الثقافة؛ ذلك أن الحنين حالة شعورية متجذّرة في الإنسان؛ ما يعني أن لدى كل منا استعداداً للحنين قد يقوى أو يضعف، تبعاً لظروف كل شخص وواقعه وطبيعة عواطفه.

الحنين في حقيقته حالة عاطفية يولّدها تذكُّر لحظة أو مكان أو شخص كان يمنحنا شعوراً بالأمان أو الفرح أو الاكتمال، أو يذكرنا بالزمن والعمر والحالة المثالية التي غادرتنا أو فقدناها، كأنْ نَحنّ لأيام الطفولة أو الشباب أو أصدقاء المدرسة، أو يوم كنا أثرياء مثلاً وأقوياء، وهكذا، فالإنسان لا ينتابه حنين للضعف أو الحزن أو الأيام السيئة.

إننا جميعاً نميل للحنين، حتى يمكن تعريف الإنسان في جانب منه بأنه كائن يمارس الحنين، فليس هناك من ينتابه الحنين سوى الإنسان؛ لأن ذاكرته ليست آلة توثيق حيادية، بل هي جهاز انتقاء وانتقاء مفرط أحياناً.

الذاكرة مخاتلة وخادعة غالباً؛ لذلك فهي تُلمّع لنا ما مضى، وتترك التفاصيل والصور واللحظات السيئة والقاسية جانباً، فيبدو لنا الماضي أجمل مما كان عليه في الحقيقة، من هنا أتشكك دائماً في الوصف الأكثر تداولاً بين الناس على صفحات السوشال ميديا للماضي، باعتباره (الزمن الجميل)، فهل كان جميلاً بالمطلق فعلاً؟، أم أن الجميل هو ما انتقته الذاكرة وقدمته لنا لنقع في فخه؟