إبداع أم اضطراب؟

هناك فرق بين أن يكون الشخص مصاباً بمرض ما (نفسي أو جسدي)، بتقييم الأطباء وتأكيداتهم، بمعنى أنه مريض فعلي، وليس لأن الناس تعتقد ذلك، أو تنعته بالمرض تعنتاً وادعاء، وبين أن يسلك الإنسان في حياته سلوكاً فيه من الادعاء والكذب والنفاق والتناقض ما فيه.

فالتناقض والكذب والنفاق ليست أمراضاً، ولكنها اختلالات أخلاقية، نتيجة تربية سيئة، أو ظروف مختلفة، أو اعوجاج الإنسان نفسه، واتباعه طريقاً مخالفاً للفطرة السليمة!

هناك مرض يسمى في علم النفس اضطراب الوسواس القهري، لم أتعمق في البحث والقراءة عنه كثيراً، لكنني أتابع برنامجاً لإعلامي مشهور، كان في لقاء تلفزيوني، فنعت نفسه بهذا المرض، قائلاً أنا شخص (OCD)، وأكمل حديثه بطريقة عادية، لأن الكثير من مشاهير الغرب لا يترددون في الإفصاح عن مشاكلهم وأمراضهم وأسرار حياتهم، وحتى توجهاتهم العاطفية.

وهو مجموعة أفكار أو تصورات أو اندفاعات متكررة، لا يستطيع الشخص التحكم بها، تسبب له قلقاً شديداً.

وللتخفيف من هذا القلق، يشعر الشخص بأنه مضطر للقيام بأفعال معينة بشكل متكرر، تسمّى أفعالاً قهرية، كأن يكرر غسل يديه مراراً، لأنه يشك في نظافتهما، أو يتأكد من غلق أبواب المنزل مراراً، لأنه يشك في الأمر، أو يعود تكراراً للمنزل للتأكد من أنه لم يترك المكواة أو الفرن أو أي جهاز يمكن أن يتسبب في كارثة، لا سمح الله. إنه قلق ما بعده قلق!

مارسيل بروست مثلاً، الكاتب الفرنسي الشهير، صاحب أطول رواية في تاريخ الأدب (البحث عن الزمن المفقود)، كان يعيش في غرفة صغيرة، مبطّنة بالفلّين، كي يعزل الضوضاء عن أذنه الحسّاسة، لم يكن يحتمل أقل صوت خارجي، حتى دقّات النعال في الممر كانت تربكه.

كان يعاني من الربو، لكن مرضه الجسدي كان غلافاً فقط لمخاوفه العميقة: خوف من الفوضى، من التشتت، من أن ينكسر التركيز الهش الذي بنى عليه مشروعه الأدبي العظيم.

كان يكتب ليلاً ونهاراً - لا يفرّق بين ساعة وساعة- وتحوّلت الكتابة عنده إلى طقس وسواسي: يدوّن الفكرة نفسها عشرات المرات، ينقّح الجملة الواحدة حتى تصير صفحة، ثم يعود ليبدّل كلمة هنا أو فاصلة هناك. كانت لديه وساوس مرضية من الجراثيم أحياناً، يخشى البرد، يخشى المرض، فيحصّن نفسه بالعزلة.