التناقض والفصام السلوكي لا يخص المثقفين فقط، فهؤلاء بشر ممن خلق الله، كبقية الخلق، فيهم كما البقية من أمراض وعلل وسيئات وحسنات بطبيعة الحال، وعندما يتحدث الناس عن تناقضات المثقف ومشكلاته وأزماته الأخلاقية فليس في ذلك أي نوع من التحامل عليه أو تحميله ما لا يحتمل، ولكن لأن لب المشكلة يكمن في أن الناس، كل الناس يصيبون ويخطئون ويتجاوزون حدود الأخلاق والقوانين دون محاولة لارتداء أية أقنعة، أو التظاهر بعكس ما يفعلون!
كما أن هؤلاء الناس العاديين لا يراقبهم أحد، ولا يتلصص عليهم أحد، ولا تكتب عنهم الصحافة، ولا يصورهم الإعلام، ولا يصدرون لأنفسهم تلك الصورة الملائكية لحماة القيم والأخلاق كما يفعل المثقف، الذي لا يكف عن تصدير صورته لقرائه ومتابعيه ومعجبيه باعتباره الشخص الذي نبتت له أجنحة وهو نائم، فنذر نفسه للفضيلة وحراسة الحرية والقيم والتسامح و... بينما لا أجنحة هناك، ولا هم يحزنون مجرد بناء صورة مثالية تسهل تمرير الأفكار والكتب والمنتجات التي يبيعها للناس، أي أنها مجرد ادعاءات للحصول على المكاسب استغلالاً للثقة الممنوحة له. ولا بد من التأكيد أن هذا لا يطال الكل لكن يطال عدداً كبيراً للأسف!
منذ ما يقارب العشرين عاماً صدر كتاب «المثقفون» لبول جونسون الذي نقله إلى العربية طلعت الشايب. وفيه حديث طويل ومتشعب حول تناقضات كبار الأسماء المثقفة في العالم، هذه «الشيزوفرينيا» هي الفرضية التي سعى الناقد البريطاني بول جونسون إلى إثباتها، عبر استعراض سير وسلوكيات كبار الكتاب والمنظّرين والفلاسفة، الذين نتعرف عليهم من بوابة بول جونسون الذي أثبت أن هؤلاء المثقفين الكبار قد أسقطوا الإنسان الفرد العادي (القارئ/ والمتابع/ والمعجب) من حساباتهم بزعم انحيازهم للأفكار العظيمة ومجد البشرية، فاستهتروا بالقيم النبيلة التي بشروا بها، ودعوا لتبنيها، بل وضربوا بها عرض الحائط، سعياً وراء مجدهم الشخصي!
كم شخصاً يكتب تحت اسمه (كاتب وروائي ومناضل لأجل حرية الفكر والثقافة) لا يقيم وزناً للحرية، وفي أول اختلاف معه أو خلاف أو تعارض، يصرخ فيك ويقاطعك ويحظرك، كأنك حبيبته التي خانته أو زوجته التي طالبته بالطلاق بسبب رائحة فمه الكريهة!